بداية تحول الموقف الفرنسي… الانتخابات الرئاسية إلى المربع الأول؟

أفادت مصادر فرنسية متطابقة تحدثت إليها «الشرق الأوسط» عن وجود «بداية تحول» في موقف باريس من ملف الانتخابات الرئاسية في لبنان، تحديداً بالنسبة لمواصلة السير بالمقاربة التي تدعو إلى انتخاب النائب والوزير السابق سليمان فرنجية رئيساً للجمهورية مقابل المجيء، من أجل التوازن، برئيس حكومة «إصلاحي» بشخص القاضي والسفير السابق نواف سلام.

وقالت هذه المصادر واسعة الاطلاع على الاتصالات والمشاورات الجارية، إن باريس وصلت إلى اقتناع مفاده أن «خطتها» التي تروج لها منذ بدء الفراغ الرئاسي بلبنان في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، «لا تتوافر لها ظروف النجاح»، رغم الجهود الدبلوماسية التي تبذل على الصعيد الرئاسي وعبر القنوات الدبلوماسية التقليدية.

وخلال الأسابيع الماضية، استقبلت باريس كثيراً من الشخصيات اللبنانية، وأجرت مشاورات موسعة في إطار «المجموعة الخماسية» التي تضم إليها الولايات المتحدة الأميركية والمملكة السعودية ومصر وقطر. وحتى تاريخه، لم يعرف كيف سيتم تراجع باريس عن نهجها السابق، وما الخطة البديلة التي ستسير على هديها بعد أن كانت الأكثر اندفاعاً في السعي لملء الفراغ المؤسساتي على رأس الجمهورية اللبنانية.

وعلمت «الشرق الأوسط» أن اجتماعاً كان مقرراً للمجموعة الخماسية الشهر الحالي. بيد أن التمايزات، إن لم يكن التضارب في الرؤى داخلها، أفضت إلى تأجيله للشهر المقبل من غير تحديد تاريخ معين لالتئامه. وتفيد المصادر المشار إليها بأن باريس «لم تقدر تماماً الرفض الذي واجه خطتها من الجانب المسيحي الذي اجتمع على رفض ترشيح فرنجية، لكنه ما زال عاجزاً، حتى اليوم، عن التوافق على مرشح (بديل)». ورغم التناقض بين حزب «القوات اللبنانية» و«التيار الوطني الحر»، فإنهما تلاقيا على رفض فرنجية. ويضاف إليهما حزب «الكتائب»، وعدد من المستقلين. ووفق مصادر سياسية لبنانية، فإن «غياب الثقة» بين الطرفين الرئيسيين يقف حائلاً دون التوافق. وحتى تاريخه، ما زال التواصل بين الحزبين اللذين يملكان أكبر كتلتين مسيحيتين في البرلمان خجولاً، ولم تسفر عنه نتائج ملموسة. يضاف إلى ما سبق أن الصعوبة تزداد إذا أخذت بعين الاعتبار توجهات النواب التغييريين التي بدروها ترفض فرنجية رئيساً، لكنها لم تنجح في التوافق على اسم مرشح لها.

أفضل الممكن
أما على الصعيدين الإقليمي والدولي، فإن رهان باريس على تسويق مقاربتها والتعويل على الطرفين الأميركي والسعودي لتسهيل انتخاب فرنجية والضغط على معارضة الداخل، كل ذلك لم يكن في محله، رغم أنها عرضت مبادرتها باعتبارها «صفقة متكاملة» تشمل أيضاً الخطة الإصلاحية الاقتصادية والاتفاق مع صندوق النقد الدولي وتشذيب النظام المصرفي ومعالجة المديونية… فضلاً عن كونها «الوحيدة البراغماتية»، أو أنها «أفضل الممكن».

لم تترك باريس بابا إلا وطرقته، ولم تترك نافذة إلا وتحاول الدخول منها، لم يتردد رئيسها المثير للقلق وليس فقط للجدل في استغلال زيارته الأخيرة لبكين لكي يُظهر تماهيا مع أجواء الاتفاق السعودي الإيراني، ولكن غايته في ذلك تحقيق مبتغاه اللبناني، في إيصال مرشح الثنائي الشيعي لسدة الرئاسة، لذلك لا يمكن الفصل أيضا ما بين تصويبه على واشنطن في تصريحاته أثناء زيارته الأخيرة للصين وما بين محاولاته أن يتمايز شرق أوسطيا عن شريك بلاده التقليدي الولايات المتحدة. هذا التمايز وإن كان يحمل في ظاهره مقاربة إستراتيجية مختلفة في بعض نواحيها عن الموقف الأميركي، إلا أنها في باطنها تحمل دوافع اقتصادية تضع في صلب أهدافها مصالح الشركات الكبرى الفرنسية على حساب علاقات باريس التقليدية في منطقة شرق المتوسط وتحديدا في لبنان وللتحديد أكثر مع مسيحييه.

في الاستحقاق الرئاسي اللبناني يمكن القول إن «الأم الحنون» (فرنسا) كما يطلق عليها اللبنانيون قد تخلت عن أبنائها المسيحيين، ففي رأي أغلبيتهم أن تصرفاتها تجاوزت مسألة التخلي ووصلت إلى مرحلة الظلم، هذا الظلم لا يُختصر في معناه الرئاسي في خيارات باريس الانتخابية، بل إنه يضرب بعرض الحائط هواجسهم المستقبلية في السياسة والاقتصاد والاجتماع والثقافة ويهدد ما تبقى لهم من دور، لأن هناك من يربط دورهم بعددهم، ويحاول استغلاله من أجل استكمال هيمنته على الدولة والمجتمع والاقتصاد بمباركة باريس، لذلك يستخدم ما لديه من فوائض قوة للالتفاف على الصيغة والدستور واتفاق الطائف الذي تمسك بالشراكة الإسلامية المسيحية وبالمناصفة بينهما ويمنع ربط الدور بالأحجام. فما تتجاهله باريس أن هناك ضرورة للحفاظ على دور حيوي لمسيحيي لبنان حماية للتعددية التي تتقلص في منطقتنا، بعدما وللأسف باتت شبه معدومة في سوريا والعراق وتقاوم من أجل مجرد البقاء في القدس، بسبب الهجرات الجماعية في هذه البلدان والحروب الأهلية والاحتلالات والتهميش والقمع الممنهجين.

يمكن القول إن خيارات باريس الرئاسية الخاطئة مكمّلة لأخطاء تاريخية ارتكبتها جهات سياسية مسيحية لبنانية معروفة عدّت نفسها في مرحلة ما تحتكر تمثيلهم، ودغدغت مشاعرهم المُحبطة بأنها قادرة على تعويضهم ما خسروه من امتيازات بعد نهاية الحرب الأهلية ورفع التهميش الذي فرضته سياسة الوصاية السورية، ومن ثم تماهت مع حلف الأقليات ووضعت المسيحيين في موقع مخالف لطبيعتهم. وكان الأخطر انفجار مرفأ بيروت الذي دفعهم إلى هجرة جماعية جديدة بعدما تحطمت آمالهم التي حاولوا استعادتها في 17 تشرين بعدما تحطمت مدينتهم وكل ما يرتبط بتراثهم. وهم الآن ليسوا وحدهم، بل إن لبنان أمام مرحلة نزيف ديمغرافي جديد ستطال ما تبقى من طبقة متوسطة إضافة إلى نخب وكفاءات تستعد للرحيل، إذا ما حصلت انتكاسة سياسية جديدة وأصرت باريس وحلفاؤها الجدد في محور الممانعة على فرض مرشح من داخل منظومة السلطة يضمن استمرارها ويضمن مصالح فرنسا على حساب خيارات اللبنانيين بالعام والمسيحيين بالخاص.

فعليا كانت انتفاضة 17 تشرين لحظة وطنية جامعة تخلت فيها الجماعات والأفراد عن جزء من هوياتهم الفرعية، لصالح هوية وطنية جامعة، وكانت التعددية السياسية المسيحية واحدة من أوراق الغنى الاجتماعي والثقافي للحياة السياسية اللبنانية غير الموجودة لدى جماعات أخرى، والتي تتعرض الآن لاستهداف ممنهج تشارك فيه باريس بجناية موصوفة ويتحمل أعباءها المسيحيون الذين يدافعون عن آخر مواقعهم في الدولة، لذلك لا يمكن أن يكون الرفض لمرشح باريس الرئاسي مسيحيا فقط، بل المطلوب غطاء وطني يضع حدا للذين يراهنون على انقسام مسيحي مسيحي أو إسلامي مسيحي من أجل تمرير صفقتهم.

يقول سمير حميد فرنجية في كتابه «رحلة إلى أقاصي العنف» عن تجربة لقاء قرنة شهوان المعارض: «في تلك المرحلة أدرك ممثلو المعارضة المسيحية ضرورة خوض معركة الاستقلال على قاعدة وطنية لا طائفية، ولذلك أصدروا بيانهم التأسيسي بتاريخ 30 نيسان 2001 في صيغة نداء إلى جميع اللبنانيين ولا سيما المسلمين منهم من (أجل حوار وطني)»، وهو النداء الذي تحتاجه المعارضة المسيحية وغير المسيحية الآن من أجل منع باريس من ارتكاب جنايتها.

اترك تعليق