في الآونة الأخيرة، تحدّث البعض في الإعلام عن فوضى أمنيّة محتملة يتمّ الإعداد لها في طرابلس. هذا الكلام ليس جديداً، بل بات بمنزلة اللازمة التي تتكرّر عند كلّ محطة سياسية مفصليّة. والحال أنّ الوضع الأمني في عاصمة الشمال من سيّئ إلى أسوأ: جرائم، اعتداءات يومية، أتاوات، قضاء ميداني، مصالحات على الطريقة العشائرية بين الفتوّات، سيارات مجهولة تطلق الرصاص ليلاً، وأخيراً الخطف.
بيد أنّ السؤال الذي يطرح نفسه: من هي الجهة التي تملك القدرة على تنظيم مثل هذه الفوضى واستثمارها؟ ولماذا؟
في الآونة الأخيرة، تحدّث البعض في الإعلام عن فوضى أمنيّة محتملة يتمّ الإعداد لها في طرابلس. هذا الكلام ليس جديداً، بل بات بمنزلة اللازمة التي تتكرّر عند كلّ محطة سياسية مفصليّة
مركز تصنيع مخدّرات
أجرى أحد الباحثين أخيراً بحثاً ميدانياً في طرابلس وقف فيه على آراء عدد من المخاتير وسكّان الأحياء الشعبية في الأزمة الاقتصادية وارتداداتها الأمنيّة والاجتماعية. فكان هناك شبه إجماع على ثلاث نقاط: الانتشار الهائل للحبوب المخدّرة في الأوساط الشبابية، تغلغل سرايا المقاومة في عمق المجتمع الطرابلسي، وتنامي شبكات الفتوّات والبلطجيّة، وعلى أنّ كلّ ذلك يحصل بدعم وتغطية الأجهزة الأمنيّة.
أتى التأكيد على النقطتين الأولى والثانية حينما ألقت شعبة المعلومات القبض على مجموعة شبّان طرابلسيين في محلّة القبّة أثناء توضيبهم لما يزيد على 8 ملايين حبّة كبتاغون استعداداً لنقلها إلى مرفأ طرابلس، ومنه إلى السنغال فالسعودية. وأشار البيان الصادر عن قوى الأمن الداخلي إلى أنّ المجموعة التي تمّ إلقاء القبض عليها تنضوي ضمن “شبكة دولية لتهريب المخدّرات”، وأنّ الموادّ الأوّلية التي تُستخدم لتصنيع “كوكايين الفقراء” كانت تُرسل من البقاع، حالها كحال المسدّسات التركيّة التي تغزو الأوساط الشبابية في طرابلس، وفق مصادر أمنيّة. وهذه هي المرّة الأولى التي يُضبط فيها مصنع كبتاغون في عاصمة الشمال، وهو ما يشير إلى تحوّلها إلى مركز تصنيع وتصدير بعدما كانت محطة توزيع وترويج.
أمّا النقطة الثالثة فباتت بمنزلة ظاهرة تستحقّ التوقّف عندها، نظراً لتصاعد تأثيرها وتمدّدها على الخريطة الطرابلسية، وصولاً الى سيطرتها تقريباً على المجال العامّ. واللافت أنّ كلّ الذين لمع نجمهم في الآونة الأخيرة يرتبطون بعلاقة وطيدة وغير مفهومة مع المخابرات. فما الذي يجمع بين حماة القانون وبعض الذين ارتبط اسمهم بالكثير من الإشكالات والحوادث.
كش ملك
إبّان سنوات الاحتراب الأهلي بين جبل محسن والتبّانة عُهد إلى الجيش ومخابراته الإشراف على أمن المدينة. ثمّ أصدرت حكومة الرئيس ميقاتي الشهيرة بحكومة “القمصان السود” قراراً رسمياً بتكليف الجيش حفظ أمن المدينة لمدّة 6 أشهر، ووضع باقي الأجهزة الأمنيّة تحت إشرافه. وهذا ما منح المخابرات مساحة نفوذ وتأثير هائلين. مع ذلك بقيت الأجهزة الأمنيّة تتنافس مع المخابرات على النفوذ في عاصمة الشمال حتى اندلاع انتفاضة 17 تشرين الأول 2019، حين استغلّت المخابرات المناخ المؤيّد للمؤسسة العسكرية وتراخي قبضة السلطة السياسية لتوطيد نفوذها واختراق قوى الانتفاضة عبر إنتاج ثوار خاصّين بها ينفّذون أوامرها. وذلك حسب العديد من شهادات المنتفضين، التي ورد بعضها في كتاب “انتفاضة 17 تشرين في لبنان”.
يعتبر رجال المخابرات أنّ ضرورات الأمن تضطرّهم إلى الانخراط في اللعبة كي لا يخرج الوضع عن السيطرة. بيد أنّ حضورهم توسّع إلى درجة غير مسبوقة
بعد ذلك حدث التحوّل الكبير مطلع عام 2021، حينما ألقت مجموعة من مثيري الشغب بضع قنابل حارقة على ضابط وعناصر من فرع المعلومات، بالتوازي مع إحراق القصر البلدي والمحكمة الشرعية. آنذاك، اتّهم كثر من نخب المدينة وأبنائها الجيش بالوقوف خلف ما حصل. وأتت الإشارة الأقوى من الرئيس سعد الحريري، الذي كان رئيساً مكلّفاً تشكيل حكومة جديدة، حينما هاجم الجيش بشكل صريح ومباشر للمرّة الأولى في مسيرته السياسية التي علّقها بعد سنة، متسائلاً: “لماذا وقف الجيش متفرّجاً على إحراق السراي والبلديّة والمنشآت.. وإذا كان هناك من مخطّط لتسلّل التطرّف إلى المدينة فمن يفتح له الأبواب؟”.
تبعه الرئيس نجيب ميقاتي بموقف غير مسبوق لرجل اشتهر بمعسول الكلام، إذ هدّد بـ”اللجوء إلى حمل السلاح للدفاع عن نفسه ومؤسّساته” غداة محاصرة المشاغبين لجامعة العزم التي يملكها تمهيداً لاقتحامها وإحراقها. وغمز من قناة الجيش متسائلاً: “من الذي يحرّض الشبّان على اقتحام سراي المدينة وعلى الفوضى؟”، على الرغم من العلاقة الوطيدة التي تربطه بالمخابرات.
تشير المعلومات والروايات التي راجت حينها إلى أنّ المخابرات قالت “كش ملك” لباقي الأجهزة الأمنيّة، ضمن إطار مباراة الشطرنج الطويلة والمستمرّة بينهما منذ سنوات على “الرقعة الطرابلسية”، والتي تستخدم فيها جماعات الشارع والناشطين كـ”بيادق” لا أكثر. إلى اليوم ما تزال القضية “مجهولة الفاعلين” مع كثرة تسجيلات كاميرات المراقبة التي وثّقت ما حصل، حالها كحال العديد من الجرائم الغامضة التي يصدف أن تتولّى المخابرات التحقيق فيها، مثل اغتيال بعض الأشخاص ذوي الحضور في الأوساط الشعبية، وشبكات تهريب المهاجرين عبر البحر.
مذّاك تفرّدت المخابرات بالنفوذ بشكل شبه مطلق، على حساب باقي الأجهزة، وخاصة الشرطة البلديّة وقوى الأمن الدخلي المغيّبتين قسراً، ما خلا الحملات بين الحين والآخر على البسطات التي ما إن تُزال حتى تعود بعد أسابيع وربّما أيام. والمخابرات هي الناظم الفعليّ لقطاع المولّدات الخاصّة الخارج عن سلطة الدولة تماماً في طرابلس والجوار. فهي من تتولّى ترسيم حدود النفوذ بين أصحاب المولّدات، ولذلك يُكثرون من بيانات الشكر لمسؤولي المخابرات حصراً عقب كلّ إشكال.
شروط اللعبة
يعتبر رجال المخابرات أنّ ضرورات الأمن تضطرّهم إلى الانخراط في اللعبة كي لا يخرج الوضع عن السيطرة. بيد أنّ حضورهم توسّع إلى درجة غير مسبوقة.
لم يمنع كلّ ذلك تداعي الأمن في طرابلس إلى مستويات مخيفة، إذ بدأت ظاهرة الخطف تنتشر أخيراً في طرابلس وضواحيها. كانت البداية من خطف محامٍ من عائلة شندب أواخر نيسان الماضي، قبل أن يُطلق سراحه بوساطة من المرشّح التغييري وأحد أبرز النخب في عكار محمد بدره. (مرفق صورة ربطاً). تلت ذلك حادثة خطف رجل أعمال من آل غمراوي مقابل فدية قيمتها مليون دولار. وأشارت بعض المعلومات إلى أنّ الخاطفين يحظون بحماية من الحزب، الأمر الذي يفسّر كيفية اجتيازهم نقاط الجيش في طريقهم من البدّاوي إلى الحدود الشرقية مع سوريا، وأنّ غمراوي جرى إطلاقه بوساطة عائلية – عشائرية، في حين اقتصر دور المخابرات على اصطحابه من المكان المتّفق عليه. ولذلك لم يشِر بيان “تحريره” الصادر عنها إلى اعتقال أيّ من الخاطفين، وتهرّب أبناء المخطوف من التصريح عن كيفية الإفراج عنه إلى حين “نضوج” الرواية في اليوم التالي.
إلى ذلك توسّعت سياسة فرض الأتاوات فبلغت مناطق الطبقة البورجوازية في طرابلس، وهو ما أدّى إلى سقوط قتيل أخيراً. ويصدف أنّ من يحصدون الغلال يرتبطون أيضاً بالمخابرات. من جهة أخرى، يمرّ الكثير من خطب الجمعة بالمخابرات للتأشير عليها قبل صعود أصحابها إلى المنبر خوفاً من فبركة ملفّات إرهاب بحقّهم. وتعدّ قضية مقتل المؤهّل الأوّل المتقاعد في المخابرات أحمد مراد في آب 2021 مثالاً فاقعاً على علاقة الابتزاز هذه. فقد كان الأخير يتحرّش بالمنقّبات بشكل خاص ويهدّدهم بسجن أزواجهم بتهمة الإرهاب. فما كان من أحدهم إلا أن أطلق النار عليه وأرداه قتيلاً. عندها قامت المخابرات باعتقال مطلق النار وعشرات الشبّان واتّهمتهم بتكوين خلية “داعشية الهوى”. ومنذ أسابيع قليلة أصدرت المحكمة العسكرية “الهمايونية” حكمها وقضت بإعدام من نفّذ الجريمة فقط. في حين توزّعت باقي الأحكام بين البراءة وكفّ التعقّبات أو سنة سجن. فأين هي الخليّة الداعشية؟
سامر زريق – أساس ميديا