تنتظر ماريا (19 سنة) منذ شهر تشرين الأول الماضي، تحديد موعد جديد لها لإعادة فحص القيادة العملي الذي رسبت فيه بالمرة الأولى، ولا من مجيب لطلبها. فيما فشل داني منذ أشهر طويلة في نيل رخصة قيادة داخل الأراضي اللبنانية، حتى لا يضطر لتجاوز القوانين برخصته الإماراتية التي يحتفظ بها منذ سنوات. ومثلهما يحاول يوسف الذي تخطى الخمسين سنة أن يجدد رخصة قيادته منذ تسعة أشهر، ولكنه حالياً يقود سيارته بموجب تعميم وزير الداخلية الذي مدد مفعول رخص السوق المنتهية الصلاحية حتى نهاية العام الجاري.
يبدو أن ما حدث مع إصدار جوازات السفر، بكل متاعبه، ربما أقل فداحة من سائر المعاملات الحيوية التي تتولاها الدوائر الرسمية، ومنها اليوم مشكلة إصدار رخصة السواقة أو تجديدها.
تمديد المنتهي
ومع أن مصالح تسجيل السيارات والمركبات في المناطق استأنفت عملها مجدداً بعد إقفال أبوابها، عندما “فقعت” “النافعة” (مصلحة تسجيل المركبات) بفضائح الفساد والرشاوى السائدة منذ عقود، فلا دفاتر “سواقة” للبنانيين حتى الآن. والحرمان يطال خصوصاً الشباب الذين انتظروا بلوغهم سن الـ18 حتى ينالوا البطاقة التي تخوّلهم قانونياً قيادة السيارات. وعليه، يمكن تصوّر حجم الفوضى التي باتت سائدة منذ أشهر على طرقاتنا، خصوصاً أن عدم نيل رخصة القيادة بالنسبة لبعض الشباب لن يحول دون ركوبهم خلف الـ”دريكسيون”.
في المقابل، أصدر وزير الداخلية في شهر آذار الماضي، قراراً قضى بتمديد رخص السوق المنتهية الصلاحية منذ بداية سنة 2022. هذا القرار أراح شريحة واسعة من اللبنانيين انتهت صلاحية دفاتر سوقهم، وكانوا يخشون من ملاحقات قانونية وغرامات قد يلاحقون بها عند مخالفتهم بقيادة السيارات، أو لأن يكون انتهاء صلاحية رخصهم سبباً كافياً لتحميلهم المسؤولية عند وقوع أي حادث. إلا أن هذا لا يعني بأن قرار وزير الداخلية أمّن غطاء قانونياً لكل من يقودون سياراتهم على الطرقات. ففي مقابل من انتهت صلاحيات رخصهم، هناك مئات لا بل آلاف الشباب الذين ينتظرون الحصول على دفاتر سوقهم لأول مرة.
مكاتب وطلبات متكدسة
في مكتبه لتعليم قيادة السيارات يحضر المختار هاني شموني “كدسة” من طلبات دفاتر القيادة المتراكمة لديه منذ شهر تشرين الثاني من العام الماضي. تتنوع حالات هؤلاء بين من يرغبون بتجديد رخصهم، وبين من يحاولون الحصول على الرخصة لأول مرة. يقول شموني أن “السجل العدلي المرفق بكل طلب جرى تجديده أكثر من مرة حتى الآن، ولكننا لم نتمكن من تقديم هذه الطلبات منذ أشهر طويلة، بسبب إمتناع الدوائر المختصة في الميكانيك عن تسلمها”. وعليه يشير شموني إلى “توقفنا عن استقبال طلبات جديدة”، منبهاً لكون ذلك “لا يعني بالضرورة أن الشباب خصوصاً لا يقودون السيارات من دون رخص”. ولكن هؤلاء وفقاً لشموني “تخلّوا عن خدمات مكاتب تعليم القيادة، طالما أن لا امتحانات سيخضعون لها حالياً، وبالتالي صرنا بلا شغل”.
يعيد نقيب أصحاب مكاتب تعليم القيادة عفيف عبود سبب توقف صدور رخص السَوق نهائياً منذ أشهر، لكون أعضاء لجان الفحص المعنية بامتحانات القيادة أوقفوا في غالبيتهم خلال التحقيقات التي فتحت بملفات الفساد والرشاوى في النافعة. وعليه منع هؤلاء لدى الإفراج عنهم من ممارسة عملهم قبل انقضاء أربعة أشهر على إطلاقهم، ولذلك لا لجان فاحصة حالياً ولا موظفين. وبالتالي، لا دفاتر سواقة. أما عناصر الأمن الذين أوكلوا مهمة تسيير مرفق النافعة خلال هذه الفترة، فلا يمكنهم وفقاً لعبود أن ينجزوا عمل نحو 65 موظفاً كانوا يشغلون مختلف دوائر النافعة.
قد لا تنطبق مسألة اللجان على مصالح الميكانيك في المحافظات. إذ يشير المختار شموني لكون اللجنة الفاحصة في زحلة ليست ممن طالتهم الملاحقات. ولكنه يقول أن أعضاءها أعربوا عن عدم رغبتهم بمزاولة مهماتهم. فهؤلاء كما يشرح شموني يتعرضون لضغوط كثيرة، وأحيانا ممن يفترض أن يطبقوا القوانين، والذين يتواصلون معهم لتغيير نتائج بعض معارفهم من راسب إلى ناجح. وفي ظل الملاحقات القائمة لموظفي “النافعة”، يفضل هؤلاء الامتناع عن العمل على تعريض أنفسهم لملاحقات قضائية. واقع يؤكد شموني أنه يتكرر في كل محافظات لبنان التي امتنعت دوائرها عن إجراء فحوص القيادة.
شركة “إنكربت”
وعليه، يكاد نشاط هيئة إدارة السير والمركبات والآليات، التي وضعت منذ نيسان الماضي تحت إشراف القوى الأمنية، يقتصر حالياً على تسجيل السيارات الأجنبية، والذي تؤكد مصادر مطلعة انه مسهل للنافذين فقط. فيما هذه التسهيلات لا تطال شريحة أصحاب السيارات التي تحمل لوحات لبنانية. بمقابل تعطيل كافة الدوائر الأخرى، ومن بينها دوائر منح رخص السوق.
إلا أن هذا الواقع لا يختصر كل أسباب المشكلة المستجدة فيما يتعلق بمنح رخص القيادة. بل يكشف عبود أيضاً عن كون الشركة الملتزمة إصدار الرخص البيومترية “إنكربت” غير قادرة على توفيرها حالياً. في وقت تتحدث المعلومات عن واقع لا تحسد عليه هذه الشركة التي ساد اللغط حول قانونيتها منذ فوزها بالتزام إصدار رخص السيارات والسوق، وتتهمها بعض الجهات المعنية بمصادرة الصلاحيات منذ إنتهاء مهلة عقدها الممتدة لسبع سنوات. متحدثة عن إخبار قُدّم إلى النيابة العامة المالية يطالب بإخراج “انكربت” من الإدارة. وفي حين تتحدث المعلومات عن بدء البحث بمناقصة جديدة ستفرض تعديلاً على أسعار الرخص الممنوحة مستقبلاً، فإن الإجراء السائد حالياً وفقاً للمختار شموني هو استبدال رخصة تسجيل السيارة بإفادة مؤقتة تصدر عن دوائر تسجيل السيارات.
بدائية امتحان السواقة
والواقع أن قصة اللبنانيين مع دفاتر السواقة لا تنتهي عند هذا الحد. والدفتر ليس سوى وثيقة يقر الكثيرون أنهم حصلوا عليها بـ”الزعبرة”. فاللبناني يكاد يكون الوحيد بين مواطني بلدان العالم، الذي يتعلم القيادة ويقود السيارة على الطرقات ومن ثم يفكر في نيل رخصة القيادة. ومع أن قانون السير اللبناني يمنع أي شخص من قيادة أي سيارة أو آلية متحركة من دون رخصة، نجد أن معظم الأهل ينزعون إلى تدريب أولادهم القيادة قبل بلوغهم السن القانونية. وعليه، عندما يحين موعد حصولهم على الرخصة، لا يكون هؤلاء بحاجة لساعات التدريب الإلزامية التي حددها القانون. فيتجاوز هؤلاء إفادة مكاتب السوق حول مهارتهم، والتي نص عليها القانون أيضاً تحت طائلة تغريم مكاتب تعليم السوق التي لا تقدم إفادات صادقة، وينتقلون فورا إلى مرحلة الامتحان. وفي هذه الحالة لا يتم تدريب السائق سوى على استخدام الناقل اليدوي لحركة السيارة (“فيتاس” عادي) والذي أدخلت عليه تعديلات كثيرة لضمان تجاوز السائق للامتحان. ومع أن القانون الذي صدر منذ العام 2012 سمح للسائقين باستخدام سياراتهم الخاصة الأوتوماتيكية في المناورات، فإن المراجعات لم تفض حتى الآن لتطبيقه.
والبدائية لا تقتصر فقط على استخدام وسيلة تقديم امتحان القيادة. وإنما مناورتها أيضاً. وهي تكاد تختصر بالتقدم بالسيارة بضعة أمتار بين خطين متوازيين، ثم قيادتها إلى الخلف ومن ثم ركنها وإطفاء المحرك. وبناء لهذه المناورة إما أن يفشل السائق أو ينجح، هذا طبعاً بعد أن يجتاز الفحص النظري الذي يلجأ البعض للغش فيه أيضاً. وعلى رغم بساطة هذه المناورة، كان الكثيرون يلجأون إلى الواسطة وزعبرة السماسرة للحصول على رخصهم. وهذه كانت من أحد أبرز الأسباب التي فتحت ملف التحقيق في الفساد الذي استشرى بدوائر النافعة ومكاتب تعليم القيادة. وذلك بعد سنوات من انفضاح بعض الممارسات، كمثل منح رخص القيادة مثلا لمكفوفين ومتوفين وغيرهم…
لا يتوقع المختار شموني تخطي هذه التجاوزات بشكل نهائي، بظل الأزمة الاقتصادية التي تعصف بالبلاد، وتراجع القيمة الشرائية لليرة وبالتالي لرواتب الموظفين، التي تشكل دافعاً اكبر لتلقي الرشاوى.
ومع أن عملية التطهير الواسعة التي جرت في النافعة، هزّت العصا بالنسبة لكثير من الدوائر التي قامت بلجم ارتكابات مشابهة، إلا أن الحل لتجنب الفساد وفقاً للمعنيين لا يكون بالتعطيل. وحل اللجان الفاحصة بالنسبة للنقيب عبود يجب أن يقابله تشكيل لجان بديلة، مع التأني في اختيار أعضائها ممن يشهد لهم بأخلاقيتهم. على أن يترافق ذلك مع التشدد في تطبيق القوانين، وإدخال التعديلات التي يحتاجها. فكل ما ذكر بالنسبة للكثير من اللبنانيين، لا يوازي خطورة الفوضى التي يتسبب بها تعطيل دوائر رخص القيادة على الطرقات، خصوصاً لما يرتبه ذلك على السائقين من تداعيات قانونية. واللبنانيون وإن كانوا يتباهون بمهارة أولادهم بالقيادة في سن مبكرة، لا يرتاح بالهم لتسليم السيارات لأولادهم من دون أن يحملوا رخصهم بجيوبهم.