لا يتعامل معارضو حزب الله معه حصراً بالانتخابات الرئاسية. بالنسبة إليهم، هناك محاولة للقفز فوق الحدث الرئاسي، لتثبيت أعراف ما قبل الدوحة وما بعدها، وإقامة معادلة جديدة، لا قدرة بعد لديهم على رسم خريطة مواجهتها
ad
بات من المسلّم به أن القوى المسيحية، من معارضة وتيار وطني حر وشخصيات مستقلة، تتعامل مع حزب الله على قاعدة أنه لا يريد انتخابات لرئاسة الجمهورية، لا اليوم ولا غداً. ومن المسلّم به لديها كذلك، أن الحزب يتعاطى مع الانتخابات على أنها محطة عابرة نحو مرحلة جديدة، تنهي ثلاثة عقود من زمن تطبيق الطائف.
ثمة محاولة لفهم تمسّك الحزب بمساره الجديد، في توقيته وفي مندرجاته، رغم أن موقفه كفكرة سياسية ليس جديداً، وجرى التعبير عن الخوف منه أكثر من مرة، ولا يتعلق فقط برئاسة الجمهورية. فالحزب، منذ أن دخل الحياة السياسية خلال التسعينيات، عبر الانتخابات البلدية وعبر المجلس النيابي وتوسيع دائرة مشاركته في الحكومات ولاحقاً تكريسه الثلث المعطّل فيها، مهّد الطريق إلى الحالة الراهنة. لكن التوقيت الحالي يترك مجالاً رحباً للأسئلة حول وضع الحزب الذي يراهن على عامل الوقت، وعلى إمكان تحويله ما كرّسه خلال السنوات الأخيرة من أعراف، في نص جديد ومكتوب، استباقاً لأي تطورات أو ترتيبات إقليمية. وهذا كلام يتردد منذ مدة في هذه الأوساط، لكنه اليوم يأخذ بعداً أكثر جدية في قدرة الحزب وإمكاناته للانتقال إلى ترجمة عملية لهذا المنحى.
ad
(هيثم الموسوي)
في عام 2018، طالب حزب الله بوزارة التخطيط. حينها، عُدّت هذه المطالبة بأنها محاولة لتطويق رئاسة الحكومة والسعي إلى السيطرة ليس على مجلس الإنماء والإعمار التابع لها مع ما يحمله من سلطات فحسب، إنما على المجالس والصناديق والمؤسسات والإدارات العامة والهيئات الرقابية التي تتبع رئاسة الحكومة. سحبت التطورات اللاحقة، مع كل ما مرّ به لبنان، هذا الموضوع من التداول. لكن حزب الله الذي أمسك بوزارة المال تحت غطاء الثنائي الشيعي، وحتى قبل انسحاب الرئيس سعد الحريري من الحياة السياسية، والمسار الذي رست عليه حكومة الرئيس نجيب ميقاتي، وانفراط عقد القوى السنية، باتت له كلمة دالة على الواقع السني في مفاصل أساسية. وساهم انسحاب الدور السعودي من لبنان في تعزيز هذا المشهد الذي تبلور أخيراً في جلسة انتخاب رئيس الجمهورية.
إذا كانت القوى المسيحية اليوم تعمل على فهم ما يريده حزب الله واستخلاص الاحتمالات التي قد يذهب إليها، فلأنها تعتبر أن النواب المسيحيين والموارنة يشكلون الأكثرية في مواجهة حزب الله، وخارج المجلس النيابي. لكنها تعترف ضمناً أن تشرذمها وما سبقه من نزاع على السلطة خلال السنوات الست الماضية، لا يسمحان لها بوضع استراتيجية دفاعية مضادة. فما اصطُلح على تسميته تقاطعاً رئاسياً، لا يملك العدة الكافية للانتقال إلى مشروع متكامل في مواجهة ما تعتبره هذه القوى رغبة حزب الله في الإمساك بقرار إدارة الحكم. فالتيار الوطني الذي يذهب في مفاصل أساسية لمقارعة غلاة الداعين إلى الفيدرالية أو اللامركزية الإدارية والمالية (تحديداً) الموسّعة، يحاول في الوقت نفسه إبقاء خطوط الاتصال مع الحزب قائمة لأسباب يرى فيها ضرورة من أجل بناء مرحلة جديدة من الثقة بينهما. في حين أن حزبَي القوات اللبنانية والكتائب يذهبان في اتجاه أكثر تشدداً نحو خيارات جذرية في معارضة إمساك حزب الله بمفاصل الحكم، من دون أن يملكا كذلك أدوات عملانية للسير بأكثر مما وصلت إليه الأمور في وقف اندفاعة الحزب نحو تثبيت مرشحه الرئاسي.
يتعاطى الحزب مع الانتخابات على أنها محطة عابرة نحو مرحلة جديدة
ad
عملياً، ينحصر توافق المعارضة والتيار على تشخيص أزمة النظام الذي يحاول حزب الله تكريسها، ورغبته في الانتقال من مرحلة إلى أخرى، والقفز فوق المسلّمات الماضية. لكن هذه القوى ليست في وضع يسمح لها بتكرار ما جرى عام 2000، وما قامت به قرنة شهوان حينها برعاية البطريرك نصرالله صفير، وسمح بما لم يكن متوقعاً إزاء الوجود السوري. أهمية ما جرى حينها أن المجال تُرك رحباً لنقاش جدي في الأفكار، وفي وضع أسس المواجهة في شكل متكامل، من دون أهداف سياسية أو طائفية مباشرة، ومن دون طغيان فريق على آخر. وهنا تكمن ثغرة الفريق المعارض حالياً والتيار وكل الدوائر التي تعتبر نفسها معارضة لمشروع حزب الله، لأن لكل منهم حساباته السياسية الخاصة ومشروعه المختلف عن الآخر، ناهيك عن غياب كلي لفكرة النقاش السياسي كما اعتادت عليه المحافل المارونية السياسية، بما في ذلك مراكزها الدينية. وهذا وحده كافٍ لتبيان عجز هذه القوى عن مقارعة حقيقية لحزب الله. فما حصل حتى الآن عُدّ تطوراً جدياً في مسار الطرفين نحو تثبيت أحقية رفض القوى المسيحية أمام الدول المعنية، فرض رئيس للجمهورية عليها. لكنّ القضية، باعتراف هذه القوى، لم تعد تنحصر برئاسة الجمهورية، بل إن تصرف حزب الله يحمل مؤشّرات خطرة إلى مستقبل لبنان والمكوّنات السياسية والطائفية فيه. إلا أن ترجمة هذه المخاوف لا تزال محصورة في تكرار شعارات سياسية، أو تقف على أبواب التهليل بأن قطوع جلسة الانتخاب مرّ على خير، كي لا ينكسر موسم الصيف واحتفالاته من كفرشيما إلى المدفون. وبذلك سيمر صيف القوى المعارضة على خير في انتظار قطوع آخر.