سنة مرّت على وصول أوّل نازح سوري قادم من تلكلخ إلى عكار في لبنان. يومها اعتقدت الدولة اللبنانية أنّها أزمة أشهر، أو سنة كأبعد تقدير، فتعاطت معها بطريقة خاطئة، ولا تزال. فقد نأت بنفسها عن معركة “الداتا” التي تطالب بها “كلّما دقّ كوز الحكومة بجرّة الأمم المتحدة”، جاعلةً منها شمّاعة تعلّق عليها فشل سنوات، ونكداً سياسياً كان في أوجِه خلال سنوات التسوية الحريرية-العونية. ما أنتج أزمة بحجم وطن تخلّت فيها الدولة عن دورها في التعداد والإدارة والتنظيم… وتمسّكت بدور “الشحّادة” على أبواب المؤتمرات الدولية.
فما الذي حصل في أزمة النازحين منذ 12 عاماً حتى اليوم؟ كيف تخلّت الدولة عن دورها؟ وكيف تفرّجت على المشكلة حتى صارت أزمة؟ ما الذي فعلته المفوّضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين؟ كيف قضى الصراع السياسي على الحلّ؟ وما علاقة جبران باسيل بكلّ ذلك،؟ ما هي الأرقام الدقيقة؟ وما مصير الأزمة مع نظام لا يريد أبناءه؟…
“أساس” يفتح هذه الأسئلة وغيرها على النقاش في تحقيق مفصّل من 3 حلقات، يحاول وضع بعض النقاط على الحروف العارية، في أزمة طالت فصولها وأطال البعض الاستثمار فيها لغايات سياسية.
في أيار 2011 دخل لبنانَ من سوريا أوّلُ سوريّ اعترفت الدولة اللبنانية به نازحاً فارّاً من الحرب: كان آتياً من تلكلخ بالقرب من حمص، ونزح إلى عكار بطبيعة الجغرافيا القريبة. خلال شهر واحد لحق به أكثر من 10 آلاف نازح في وادي خالد وحدها. كان سعد الحريري يومها رئيس حكومة تصريف أعمال، فأرسل إلى الهيئة العليا للإغاثة طلباً لاستطلاع ما يحصل في عكار، وحينها تمّ تسجيلهم فارّين من الحرب السورية تحت مسمّى “نازحين”. بعد مرور شهر واحد ترأّس نجيب ميقاتي الحكومة الجديدة، وكان الانقسام السياسي في أوجِه، وتعرّفنا يومها على المصطلح السياسي الشهير: “النأي بالنفس”. وتوقّفت الهيئة العليا للإغاثة عن تسجيل النازحين، وطُلب شفهيّاً من المفوّضية أن تبدأ بتسجيل النازحين في مرحلة ظنّ الجميع أنّها مؤقّتة. منذ ذاك الوقت إلى اليوم أصبحت أزمة النزوح السوري في لبنان بعنوان “البحث المستمرّ عن الداتا”. وما عاد التركيز على أزمة إدارة كتلة بشرية هائلة بقدر ما بات على أزمة البحث عن داتا أصبحت فيما بعد هي الهدف لا وسيلةً للحلّ، وعنواناً سياسياً “تُركّب” عليه أخبار الدمج والتوطين والديمغرافيا والأمن المسلوب وغيرها…
“النأي بالنفس”، بحسب مصدر رسمي واكب الملفّ منذ بداياته حتى وقت ليس ببعيد، أدّى إلى خصخصة الاستجابة لأزمة النزوح، فدخلت على الخطّ الدول المانحة، والجمعيات غير الحكومية
ما هو “شبح” الداتا؟
مصطلح الداتا هو التعداد المفصّل للنازحين السوريين في لبنان وسجلاتهم وأماكن انتشارهم.
لكن لماذا تحول إلى “شبح”؟
ربما لأنه يعني الكثير، ربما يعني الإقرار بوجود عدد أكبر من العدد المعروف للنازحين في لبنان، أو ربما رقم أقلّ يعارض الأرقام التي تستعملها الدولة اللبنانية في “مسيرات” التسوّل الدولية، وربما لاتصاله المباشر بندرة المساعات الإنسانية التي يحصل عليها لبنان من المجتمع الدولي لاحتضانه النازحين.
وربما لأنه يعني بتفاصيله “شياطين” أمنية ودميغرافية وتنموية فسرها كل فريق سياسي وفقاً لرغباته وأجنداته الشعبوية، حتى قررت الدولة الابتعاد عن هذا الشبح، وكأنه هروب من الحقيقة.
النأي بالنفس
“النأي بالنفس”، بحسب مصدر رسمي واكب الملفّ منذ بداياته حتى وقت ليس ببعيد، أدّى إلى خصخصة الاستجابة لأزمة النزوح، فدخلت على الخطّ الدول المانحة، والجمعيات غير الحكومية، بينما استكملت الدولة اللبنانية انقساماتها وخلافاتها حول إنشاء مخيّمات رسمية وأين ولماذا. وتحكّمت الحساسيّات الطائفية وموروثات الحرب الأهلية بالقرارات الحكومية. وكان الانقسام الطائفي في النظرة إلى النزوح هو سيّد الموقف: “فالسُّنّة رأوا في النزوح ضغطاً تنموياً اجتماعياً لأنّ معظمهم يعيش في مناطق بؤس، والشيعة نظروا إلى النزوح من زاوية الأمن، ورأوا في النازحين كتلاً بشرية قد تشكّل خاصرة أمنيّة رخوة في المناطق الشيعية، والمسيحيون رأوا فيهم شبحاً ديمغرافياً قد يغيّر هويّة لبنان”، بحسب مستشار سابق في وزارة الداخلية كان مسؤولاً عن هذا الملفّ طوال أعوام. وبالتالي كانت النظرة إلى أزمة النزوح فئوية، انعكست على كيفية التعاطي معها في مختلف مراحلها. ولذلك أصبحت تجربتا تركيا والأردن، على الرغم من نجاحها، شبه مستحيلة التطبيق في لبنان مع استحالة التوافق.
خصخصة الأزمة: “المجاري” في الليطاني
نجح الأردن وتركيا وبرعا في استغلال أزمة النزوح لمصلحتهما، عبر إنشاء مخيّمات رئيسية كبرى، واستطاعا تطبيق ما يسمّى “migration diplomacy” وأن يأخذا تمويلاً هائلاً من الدول المانحة. وبينما كانت أزمة النزوح تستمرّ بالتعاظم، كانت الدولة اللبنانية غائبة، “فدور الدولة أن تضع الأسس والشروط والأنظمة وتراقب تطبيق هذه الأنظمة، لكن عندما غابت الدولة تمّت خصخصة الأزمة من دون أيّ ضوابط أو شروط”، كما يؤكّد المصدر الرسمي لـ”أساس”.
أدّى الخلاف الكبير إلى عدم إنشاء مخيّمات شرعية، وكان ذلك سيسهّل التعاطي الماليّ مع الدول المانحة. حتى المخيمات العشوائية تمّ التعاطي معها بغباء إداري. على سبيل المثال لا الحصر رفضت وزارة الطاقة والمياه أن يكون لهذه المخيمات أيّ صرف صحي “منعاً للتوطين”، برأيها، فبدأت المخيّمات بتحويل مياه صرفها الصحّي إلى مجرى نهر الليطاني، في مشهد يمثّل تعاطي الدولة اللبنانية مع أزمة النزوح أصدق تمثيل.
في شباط 2014 تغيّرت الحكومة، وجاءت حكومة جديدة برئاسة تمّام سلام، وكان دورها الأساسي التخفيف من حدّة الاحتقان السياسي في البلد، ودخل تعاطي الدولة اللبنانية مع أزمة النزوح مرحلة جديدة أكّدت أنّ الوزارات المعنيّة قادرة على إدارة الملفّ في حال التوافق السياسي.
في آب 2014 واجه لبنان تنظيمَيْ داعش والنصرة في عرسال، اللذين اختطفا عناصر من الجيش اللبناني. فبدأ يخفّ الانقسام وطنياً وطائفياً تجاه النزوح السوري وبدأ يطغى العامل الأمنيّ. يومها تمّ تشكيل لجنة تقنية تضمّ ممثّلين عن الوزارات المعنيّة بالنزوح السوري مثل الداخلية والعمل والخارجية والشؤون والتربية، واتُّخذت الحكومة قرارات تتعلّق بأزمة النزوح السوري، ووضعت للمرّة الأولى ورقة رسمية في هذا الخصوص سُمّيت ورقة تشرين الأول 2014. وقد تضمّنت رؤية لكيفية التعاطي مع أزمة النزوح، وجاءت بعد فشل أيّة محاولة لإحداث أيّ خرق أساسي في إنشاء مخيّمات رسمية، فلا مخيّمات داخل لبنان ولا مخيّمات على الحدود بين لبنان وسوريا. لأنّ النظام السوري رفض إنشاء مخيّمات على الحدود واعتبرها تحدّياً أمنيّاً له، وفي الداخل اللبناني رفضت القوى السياسية ذلك أيضاً.
أدّى الخلاف الكبير إلى عدم إنشاء مخيّمات شرعية، وكان ذلك سيسهّل التعاطي الماليّ مع الدول المانحة. حتى المخيمات العشوائية تمّ التعاطي معها بغباء إداري
ورقة تشرين الأوّل 2014
يقول المصدر نفسه: “كانت الرؤية مبنيّة على الانتقال إلى ما يجب أن نفعل في حال فشل إنشاء مخيّمات، وركّزت على أربع نقاط أساسيّة:
1- وقف التسجيل:
قرّرت الحكومة إعادة دور الدولة الرقابي والتنظيمي في موضوع النزوح السوري، وأوّل خطوة هي معرفة أعداد السوريين. واعتبرت الرؤية حينها أنّ معرفة أعدادهم تتطلّب أوّلاً التوقّف عن تسجيل نازحين جدد. وعليه اتّخذت الحكومة قراراً، بناء على توصية وزارة الداخلية والبلديات، في عهد الوزير السابق نهاد المشنوق، بالطلب من المفوضية وقف تسجيل نازحين جدد، على اعتبار أنّه لا يمكن إحصاء عدد السوريين فيما التسجيل مستمرّ. وطُلب من المفوضية التوقّف عن التسجيل إلا بناءً على موافقة مجتمعة من وزيرَيْ الشؤون الاجتماعية والداخلية والبلديات. وفي ذلك الوقت خفّت حركة النزوح إلى لبنان لأنّ المعارك الأمنيّة العسكرية داخل سوريا في نهاية 2014 وبداية 2015 كانت بعيدة عن الحدود اللبنانية السورية، وكانت الحدود التركية والعراقية أقرب للنازحين الجدد من الحدود اللبنانية.
2- طلب نسخة عن الداتا من المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين:
صدر قرار بإحصاء عدد السوريين ليتمكّن لبنان من فرز السوريين إلى نازحين ومهاجرين اقتصاديين (economic migrants)، لأنّ السوري الذي يغادر لبنان ويدخل سوريا ثمّ يعود، لا يُعتبر نازحاً، وليس هناك خطر أمنيّ على حياته، وطُلب من المفوضية إعطاء نسخة عن المسجّلين لديها لوزارة الشؤون، للتمييز بين النوعين.
3- تحديد معايير الدخول والخروج:
كانت الخطوة الثالثة، بناءً على اقتراح وزير الداخلية والبلديات، وضع الأمن العامّ اللبناني منذ 1/1/2015 معايير تنظّم دخول السوريين لبنان.
في هذا الإطار تقول المفوضية إنّ لديها اليوم قيود أكثر من 700 ألف سوري دخلوا لبنان بعد 2015. يسأل المصدر: “كيف دخل هؤلاء على الرغم من المعايير الصعبة؟”، فبرّرت المفوضية ذلك بأنّ المعايير الأخلاقية والإنسانية التي تحتكم إليها تضطرّها إلى تسجيل قيود كلّ شخص يقصدها بغضّ النظر عن التسمية. ويؤكّد مصدر واكب عملية التسجيل أنّ معظم هؤلاء مهاجرون اقتصاديون وليسوا لاجئين “لأنّ تقديرات منظّمة العمل الدولي تقول إنّه قبل الأزمة السورية كان هناك حوالي 250 ألف عامل سوري موسميّ في لبنان، فلو أتى كلّ عامل بعائلته إلى لبنان لقارب العدد مليوناً”.
من جهتها، نفّذت الدولة اللبنانية في تلك المرحلة تجربة ناجحة تعاوَن في تحقيقها الأمن العامّ والمفوضية، وطلبت من خلالها الحكومة من الأمن العام إعطاء داتا دخول السوريين وخروجهم للمفوضية، وقامت المفوضية بدراسة هذه الأسماء وقارنتها بتلك المسجّلة لديها واستطاعت يومها خلال شهرين فقط أن تشطب عن أوراقها 16 ألف سوري دخلوا وخرجوا من سوريا أكثر من مرّة.
4- تنظيم سوق العمل:
وضعت الرؤية يومها مخطّطاً واضحاً لفرض إعطاء مساعدات للمجتمعات المضيفة للنازحين السوريين بالتوازي مع دعم النازحين، وزيادة طلب مساعدات وقروض ميسّرة من الدول المانحة تحت عنوان تأهيل وتطوير البنى التحتية اللبنانية وتشغيل عاملين سوريين في هذه المشاريع، بالإضافة إلى تنظيم سوق العمل. ولهذا الهدف طالبت وزارتا الداخلية والشؤون بمشاريع تدعم البلديات وتساعدها على تنظيم العمالة اليومية في إطارها.
يختم المصدر حديثه مؤكّداً أنّنا اليوم ما زلنا نسمع العناوين نفسها، ولا سيّما “المطالبة بالداتا”، فيما يجب التفكير بمنطق آخر، فلا يجوز التفكير في حلّ أزمة عمرها 12 سنة بنفس منطق التفكير عندما كان عمرها سنة أو سنتين: “أيّ داتا من دون تنظيم الإقامات هي بلا قيمة. وهناك ثلاثة شروط محلّية لعودة النازحين إلى سوريا: إقامات، تسجيل زواجات، وتسجيل ولادات. إذا لم تنفّذ السلطة اللبنانية هذه الشروط فهذا يعني أنّها لا تريد إعادة السوريين إلى بلدهم”.
تقول المفوضية إنّ لديها اليوم قيود أكثر من 700 ألف سوري دخلوا لبنان بعد 2015
كيف ضاعت “الطاسة”؟
يتحدث رشيد درباس، وزير الشؤون الاجتماعية بين العامين 2014 و2016، عن تجربته مع الملف، وعن الخطة التي وضعت في تلك المرحلة وحصلت على موافقة بالإجماع من خلية الأزمة والحكومة. واتُخذ القرار يومها بوقف استقبال النازحين، عندما تخطت أعدادهم المليون. ويروي لـ”أساس” كيف خاض نقاشات عديدة وطويلة مع المعنيين خارج لبنان، ومن أبرزهم الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش. وفي 5/1/2015 أصبح اللجوء السياسي “صفر” في لبنان. وبسبب شطب “المهاجرين الاقتصاديين”، تراجع العدد الرسمي للنازحين من مليون و300 نازح، إلى 850 ألفاً فقط.
لكن أين أصبحت هذه الخطة اليوم؟
يتأسّف درباس من أنّ هذه الخطة “مرمية في الأرشيف، ولم تبصر النور”، وذلك بسبب “المراهقة السياسية المستمرة في الملف حتى اليوم”. ويستذكر كيف قام الرئيس سعد الحريري بتعيين وزير دولة لشؤون اللاجئين، كان يومها الوزير معين المرعبي، مع صفر موظفين وصفر صلاحيات، بالتزامن مع “تشليح” صلاحية الملف من وزارة الشؤون : “في هذه اللحظة ضاعت الطاسة”. ويضيف درباس: “بالرغم من أنني استحدثتُ أجهزة خاصة من المتدربين والفرق الميدانية، ونفّذت مشروع الداتا الوطنية بكلفة 4 مليارات ليرة (2.66 مليون دولار في حينه)، فأحصينا عبره 500 ألف نازح سوري، لكن أوقفه الوزير الذي أتى من بعدي لندخل من بعدها في العشوائية في الملف”.
ويتأسف أيضاً لأنّ “الإدارة لم تأخذ القضية على محمل الجد، ولا تزال”. إذ يزداد الوضع سوءاً: “فاي قضية وطنية تحتاج إلى إدارة جدّية وقرار واحد، ويجب أولاً وأخيراً تحييدها عن التجاذب السياسي”.