ليس أدلّ على التسليم الداخلي بأن الشغورَ في موقع رئاسة الجمهورية باقٍ ويتمدّد، من وضْع هذا الملف على رفّ الانتظار، تارةً لمَهمة جان – إيف لودريان وطوراً لأن تفعل لعبةُ الإنهاك «حتى آخِر نَفَس» فعلها فتكون «الولادةُ القيصرية» للحل القسري، في حين تُقرع الطبول بأعلى صوت في ملاقاة الشغورِ المرتقب (نهاية تموز) في حاكمية مصرف لبنان وسط استنفارٍ سياسي تُستخدم فيه كل أساليب المناورة والقنابل الدخانية لتفادي سقوطِ هذا المنصب في شِباك فراغٍ… مستطير.
ومن خلف غبار المعركة التي استعرت في الساعات الماضية حول ما بعد انتهاء ولاية حاكم «المركزي» رياض سلامة في ضوء ما بدا أقرب الى «البلاغ رقم 1» الذي رسم معه نوابه الأربعة معادلة «الاستقالة الجَماعية أو تعيين حاكم جديد»، استخلصتْ أوساطٌ واسعة الاطلاع إشاراتٍ لا تحتمل التأويل إلى أن القوى الوازنة تنغمس في عملية تدعيمٍ لـ«السواتر الترابية» بما يتيح لها إكمال «الحرب الباردة» الرئاسية عبر استحداثِ «استحكاماتٍ سياسية» تعزّز وضعيّتَها في مكاسرةٍ تطغى عليها تعقيداتٌ داخلية تُنْذِر بتكسير أجنحة أي وساطات خارجية، فكيف بـ«مبادرةٍ عرجاء» مثل التي تقودها فرنسا وكأنها «خطوة إلى الأمام، خطوتان الى الوراء».
ومنذ بيان «دقّ النفير» لنواب الحاكم الأربعة، لم تهدأ أعمال «البحث والتحري» عمّا أو عمّن «ضَغَطَ على زرّ» رمي معطى جديد بدا خالطاً لأوراقٍ اعتقد كثيرون أنها أُنجزت على قاعدة انتقالٍ سلس لـ «السلطة» النقدية – المالية من سلامة (المسيحي – الماروني) إلى نائبه الأول (الشيعي) وسيم منصوري وفق ما ينص عليه قانون النقد والتسليف، ليتّضح أن هذا المسار مازال مزروعاً بشكوك وأشواك عبّر عنها ما يشبه «السياج الشائك» الذي رُفع حول مرحلة ما بعد الحاكِم الذي أحكم قبضته على «المركزي» طوال 30 عاماً متواصلة، هي واقعياً نصف عمر مصرف لبنان الذي تأسس في 1963.
ولم يتطلّب الأمر الكثير من العناء لتبيان أن رفع سقف الضغط إلى أعلى مستوى من خلال بيان رباعيّ نواب الحاكم ليس إلا «رأس جبل الجليد» في صِراع مكتوم وصولاً إلى واحد من 3 أهداف:
– الأول فرْض تعيين حاكم جديد خلال الفترة المتبقية من ولاية الأصيل، وهو الأمر الذي تعترضه صعوباتٌ هائلة، يتقاطع فيها الاعتراضُ المسيحي على انزلاقِ حكومة تصريف الأعمال نحو المزيد من تخطي رئيس الجمهورية، وهذه المرة في صلاحيات لصيقة به (مثل تعيين حاكم وتأديته القسم أمام مجلس الوزراء مجتمعاً عوض الرئيس الغائب)، مع الـ لا التي سَبَقَ لـ «حزب الله» أن رَفَعها أمام تعييناتٍ ستكون وكأنها من «خارج النص» مفضّلاً ترْك القانون يفصل في ما خص ما بعد انتهاء ولاية سلامة أي أن يتسلّم الدفة وسيم منصوري.
– التمديد التقني لسلامة ووفق صيغة يكون محورها وزير المال عبر طلبه من حاكم المركزي البقاءَ في منصبه لتسيير المرفق العام وتفادي فراغٍ مميت حتى انتخاب رئيس جديد وتالياً تعيين خلَف لسلامة.
وإذ كان لافتاً ما نُقل عن مصادر مطلعة لجهة وجود «معلومات تفيد أن نقاشاً حصل مع الحاكم حول استمرار بقائه في منصبه إلا أن الأخير أصرّ أن تحدَّد له مهلة ستة أشهر أو سنة كحد أقصى بغض النظر عن الانتخاب الرئاسي من عدمه»، لم يقلّ دلالة ما أعلنه مستشار رئيس الحكومة الوزير السابق نقولا نحاس عن تحرك للرئيس نجيب ميقاتي خلال الأسبوعين المقبلين، متحدثاً عن مخارج متعددة، منها التعيين وتسلُّم نائب الحاكم الأول صلاحيات الحاكم، وإذا لم يتمّ التوافق على المخرجيْن فهناك مخرج جديد قيد الدرس.
ويستند مَن يعتبرون أن الهدف من بيان نواب الحاكم هو «الإقفال بالكامل» لأي مَنافِذ غير استمرار سلامة في موقعه – هم الذين يدركون استحالة تعيين حاكم جديد – إلى معطياتٍ تتحدث عن تردُّدٍ كبير، أقرب الى الرفض من رئيس البرلمان نبيه بري لأن يتسلم منصوري هذه المهمة ووضْع المكوّن الشيعي في الخط الأمامي بمواجهة البركان النقدي – المالي، وسط محاولات لربْط هذا الأمر بعدم وجود ضمانات كافية تجاه الولايات المتحدة بأن يبقى «المركزي» خارج دائرة أي عمليات ولو غير مباشرة لـ «حزب الله» وقريبين منه.
ولا يستبعد هؤلاء في ضوء هذا السيناريو – الذي تمت مواكبته بـ «حرب نفسية» لحرْف الأنظار عن «الهدف الحقيقي» من حركة النواب الأربعة للحاكم عنوانها حضّ المسيحيين على التوافق على اسم لتعيينه مكان سلامة – أن يبلغ هؤلاء حد تقديم استقالاتهم فعلياً قبل نهاية تموز (ما سيعني إفراغ المجلس المركزي لمصرف لبنان من غالبية أعضائه) بما يفرض طلب بقاء سلامة مع هؤلاء في مراكزهم حرصاً على مصلحة البلاد العليا، وسط انطباعٍ بأن «بيان الأربعة» كان أقرب إلى إعلان رفْض انتقال السلطة إلى أوّلهم أكثر منه إبداء رأي في إمكان «تمديد الضرورة القصوى» لسلامة من قِبل السلطة السياسية أم لا.
– أما الهدف الثالث المحتمل لاندفاعة نواب الحاكم فهو توفير «بوليصة تأمين» لمنصوري والمجلس المركزي، تُسمى «عُدة شغل» أو صلاحيات استثنائية أو ضمانات، تتخذ شكل تشريع في البرلمان يغطي استخدام الاحتياطي الموجود لدى مصرف لبنان سواء في منصة «صيرفة» أو غيرها أي وضع أرضية قانونية يتحرّك عليها المركزي في تدخلاته في السوق النقدية أو أي إجراء آخر، وتالياً استدراج القوى السياسية إلى «شراكةٍ» في هذا المسار تُخْرجهم من «فوهة المدفع».
وما زالت أوساط سياسية في بيروت ترجّح أن يكون تمديد إقامة سلامة في المصرف المركزي هو «السمّ» الذي تجري محاولة تجريعه على دفعات للبنانيين، رغم ما ينطوي عليه هذا الأمر من تكريس افتراقٍ في الخيارات بين طرفيْ الثنائي الشيعي، حزب الله وبري، وسط انطباعٍ بأن عدم حماسة رئيس البرلمان المتجددة لتسلُّم منصوري مهمات الحاكم تعاكِس «عملية مراكمة استراتيجية» للحزب قامت على رغبةٍ في توجيه رسالة إلى القوى المسيحية الوازنة التي تعاند انتخاب سليمان فرنجية (وتقاطعت على ترشيح الوزير السابق جهاد أزعور) بأن المضي في «المشاكسة» سيُطْلِق دومينو فراغات في مواقع مسيحية حساسة ستؤول لغير مسيحيين ولو بعد حين، من حاكمية مصرف لبنان الى قيادة الجيش، مع ما سيعنيه حصول ذلك على المستوى «السيكولوجي» من «تمرينٍ» على تَعَوُّد وجود غير مسيحيين في هذه المناصب، وكأن في ذلك ربْطاً مسبقاً بمساراتٍ قد تفرض إعادة توزيع كعكعة المراكز – المفاتيح في الدولة إن كان تعديل النظام غير ممكن في هذه المرحلة.
ولا شكّ في أن أي تمديد، أياً كانت تسميته، لسلامة سيُقابَل باعتراضاتٍ سياسية، أولاً في ضوء تذكير «التيار الوطني الحر» (يقاطع جلسات الحكومة) بموقفه الداعي الى تعيين حارس قضائي على مصرف لبنان بانتظار تعيين حاكم جديد، وثانياً في ظل الهجوم العنيف الذي تعرض له نواب الحاكم من غالبية قوى المعارضة على خلفية «قفزهم من المركب» في مخالفة «أخلاقية» لا تخلو من قطب سياسية غير مَخْفية.