خليل وميقاتي يدفنان التدقيق الجنائي

منذ انتهاء مَهام شركة «ألفاريز أند مارسال» وتسليمها التقرير الأولي للتدقيق الجنائي في أنشطة وحسابات مصرف لبنان لوزير المال يوسف الخليل مطلع حزيران الماضي، يرفض الأخير الإفراج عن التقرير متذرّعاً بأنه سيسلّم «النسخة النهائية عنه لدى جهوزها إلى مجلس الوزراء»، كما أشار في بيانه. واتّضح أن البيان لم يكن رداً على الحملة المطالبة بنشره بل فقط، للتأكيد أن «مسوّدة» التقرير «لم تأت على ذكر رئيسَي مجلس النواب نبيه بري والحكومة نجيب ميقاتي». واللافت أن الخليل وصف التقرير بـالـ«مسوّدة»، وأنه لا يزال بصيغة غير نهائية، في حين أنه تقرير أولي نهائي وفقاً لأحكام العقد الموقّع بين الحكومة و«ألفاريز أند مرسال» في 17 أيلول 2021. ولأن خليل سلًف ميقاتي موقفاً سابقاً، ردّ له ميقاتي الجميل يوم أول من امس عبر التصريح ان التقرير بمرحلة النقاش وعندما «تظهر الصيغة النهائية سننشره». «الأخبار» اطلعت على نسخة العقد الأولى الموقّعة بتاريخ 1 أيلول 2020 من وزير المال غازي وزني ممثلاً حكومة حسان دياب، والنسخة الثانية المعدّلة الموقّعة من قبل خليل.

ad
(هيثم الموسوي)

مقارنة النسختين تفضي إلى تعديلات طفيفة تتعلق بفسخ العقد الأول وإعادة توقيع عقد جديد، إلا أنها لا تمسّ بجوهر العقد ولا بالبنود المتعلقة بـ«سرية» التقرير. وخلافاً لما ادّعاه خليل في بيانه بأن التقرير «قيد جمع إيضاحات حول بعض الاستفسارات»، فإن الفقرة «أ» من بند «وصف الخدمات» واضحة بالإشارة إلى أن الشركة «ستوفر كل التوضيحات اللازمة للعميل الذي يمكنه طلبها خلال مدة أسبوعين من تاريخ التسليم»، ما يعني أن أي إجراء مماثل أو استيضاح من قبل الوزارة يفترض أن يكون قد تمّ وأن يكون الوزير قد حصل على الرد. علماً أن الاستيضاح الذي سيصدر أو صدر عن الشركة لا يغيّر شيئاً في مضمون التقرير ولا نتيجته بل يجيب على أي أسئلة من جانب وزارة المال.
الاستفسار هنا لا يشمل أي طلب إضافي، بل يستند فقط إلى المعلومات المقدّمة من الشركة، إذ تشير الفقرة نفسها إلى أن أي «طلب لاحق من خارج ما هو متفق عليه في العقد يمكن أن يتم غداة تسليم التقرير ويكون موضوع عقد جديد بين الطرفين»، أي أنه يستلزم صياغة عقد جديد بين الطرفين وهو ما يؤكد مجدداً أن التقرير نهائي. على هذا المنوال، يتبين أن وزير المال كما ميقاتي، يحاولان إضاعة الحقيقة ونشر معلومات مغلوطة حول العقد، بما فيها حديثه عن «مسوّدة».

رئيس الحكومة اطّلع على التقرير من وزير المال من دون مشاركته في مجلس الوزراء

ad

الفقرة الأهم التي تنقض كل ما يتذرّع به خليل للاحتفاظ بالتقرير وعدم تسليمه إلى أي طرف فضلاً عن رفعه المسؤولية عن نفسه بالإشارة إلى أنه مجرد وسيط بين الشركة ومصرف لبنان، هي الفقرة الخامسة التي تنص على أن: «تتعهد الشركة بأن العقد والتقرير الأولي كما النتائج الشفهية أو المكتوبة المقدّمة من الشركة، تُستخدم لمصلحة العميل فقط». ويكون لوزير المال «الحق بمشاركة تقرير التدقيق الجنائي الأولي كاملاً مع أي سلطة في الدولة اللبنانية من دون الحصول على موافقة مسبقة من الشركة. مع الأخذ في الاعتبار ضرورة اتخاذ وزير المال خطوات جدية للتثبّت من أن من يشاركهم التقرير يدركون ويوافقون على أن التقرير المسلّم من الشركة لا يحملها أي مسؤولية أمام أي جهة، وأنه ذو طابع سري». وبشكل أوضح، تشير هذه الفقرة إلى احتمال استخدام التقرير في المحكمة أو لأي غرض قضائي، «ففي حال طُلب من العميل الكشف عن التقرير من قبل المحكمة (أي في إطار إجراءات قضائية) ضد أي فرد أو طرف مشمول ضمن التقرير، يجب الحصول على موافقة الشركة التي لن تتأخر في الرد ويمكنها حسب تقديرها تقديم تقرير معدّل يتناسب مع هذه الإجراءات من دون أن توقّعه باسمها ومن دون إيراد أي إشارة تدل على علاقتها به». ويتمتع العميل «بكامل حرية مشاركة التقرير غير الموقّع مع جهات أخرى لتسهيل عمل القضاء»، على أن «تطبيق هذه القيود المذكورة آنفاً يسري فقط على استخدام التقرير قضائياً، لكن لا يجوز تقييد استخدام العميل للتقرير بأي طريقة أخرى إلى الحد المسموح به بموجب شروط الاتفاق، بما في ذلك ما تنص عليه الفقرة الفرعية الأولى من هذا البند أو ما قد يتطلبه الأمر من تلبية طلبات القضاء المختص».
ad

ما سبق يقود إلى أمرين: الأول أن وزير المال، أو بالأحرى مرجعيته الرئيس نبيه بري، قرّر عدم الإفصاح عن أي تفصيل في هذا التقرير حتى لو كان الأمر عبارة عن نص غير موقّع من شركة التدقيق لرفع المسؤولية عن نفسها. وبالتالي يتحمّل خليل مسؤولية إخفاء نتائج أولية حول ما توصّل إليه التدقيق في حسابات مصرف لبنان وهو شريك حاكمه رياض سلامة كونه شغل سابقاً مدير العمليات المالية في المصرف. وخليل اليوم متهم بتبديد مليونين ونصف مليون دولار من أموال الناس لزوم تقرير حول تدقيق جنائي لن يُستخدم لكشف حقيقة المخطط الاحتيالي الذي أدّى إلى خسارة المودعين أموالهم، ولن يُستخدم لمحاسبة أي مرتكب. أما الثاني، فهو أن هيئة التشريع والاستشارات التي أبدت رأيها في مشروع عقد التدقيق الجنائي بين الدولة وشركة ألفاريز بتاريخ 7/7/2021، تتحمّل مسؤولية ما يجري حالياً من فوضى تصريحات وتفسيرات لبنود العقد، إذ إن الهيئة منحت موافقتها على السير بالمشروع وقبلت بإيراد بنود غير ملزمة للشركة ولا تنحاز بشكل واضح إلى مصلحة الدولة اللبنانية. وثمة مسؤولية رئيسية على رئيس الحكومة الصامت منذ صدور التقرير ولكنه «نطق» اول من أمس لينسف بنفسه سرية التقرير عبر القول انه «لم يجد فيه ما هو غير معلوم ومعروف. فبحسب ما شرح وزير المالية لا شيء غير المتعارف عليه مع شرح لما حصل وأسبابه وظروفه وتداعيات الهندسات المالية وغيرها من الخطوات»، ما يعني أنه اطلع عليه أو سمع عنه من وزير المال، أي الموظف السابق في مصرف لبنان، دون مشاركته في مجلس الوزراء. أما المسؤولية الأكبر فتقع على عاتق غالبية النواب الذين يفترض أن يمثلوا الشعب ولكنهم عند الجدّ يلتحقون بركاب مرجعياتهم. فقانون حق الوصول إلى المعلومات الصادر عن مجلس النواب يحدّد الاستثناءات والمستندات السرية التي لا يمكن الحصول عليها والتدقيق الجنائي ليس من بينها. كل ذلك لا يعفي القضاء أو النيابة العامة التمييزية من دورها الذي يخوّلها تجاوز مطبات العقد وعدم الالتزام به، طالما أن بنوده لا تعلو فوق القانون عندما يتوفر الدليل الجرمي على ما تقول مصادر قضائية ولأن هذا التقرير أساسي في الدعوى التي أقامتها الدولة اللبنانية ضد سلامة. فالقضاء مستقلّ عن الحكومة ويمكنه طلب الحصول على التقرير حتى ولو بالقوة خدمة للصالح العام.

اترك تعليق