حادثة «القرنة» تفضح كذبة التعايش

نزعة التقسيم وفدرلة لبنان لم تخفت يوماً. في كلّ أزمة سياسيّة وأمنيّة يتحوّل الخطاب إلى «نحن» و«هم» و«غالبٍ» و«مغلوب». حادثة القرنة السوداء مطلع هذا الشهر تحوّلت إلى صراع على الهُوية وأيقظت أحلام «الفدرلة» لدى البعض

ad
تحوّلت حادثة القرنة السوداء ومقتل اثنين من أبناء بلدة بشري برصاص مجهولين، مطلع الشهر الجاري، إلى قضيّة أعمق في وجدان أهالي بشري. النزاع العقاري تافه أمام ما هو أكبر: حماية الهويّة. يتكرّر الشعار على ألسنة «البشرّانية» إلى حد «تخوين» أحزابهم – بما فيها القوات اللبنانية – التي «تخاذلت في حسم القضيّة».

في عزاء مالك طوق، أحد الشابين اللذين قُتلا في الحادثة، يصرخ أحد أبناء بشري أمام الجموع: «ما بقى بدنا نسكت عن حقنا. تاريخ أبناء بشرّي معروف وقادرون على حماية هويّتنا في وجه الظلم اللاحق بنا». النزاع العقاري على القرنة بات واحداً من الأمثلة الكثيرة في تاريخ طويل من «استهداف المسيحيين»، خصوصاً بعد انتهاء الحرب الأهليّة التي انتهت بـ«مغلوب» هو المسيحيون، و«غالب» يواصل محاولاته لـ«كسر المسيحيين وهضم حقوقهم».
تتقدّم فكرة «الاضطهاد» على ما عداها في العقل الباطني لأبناء بشري. «نحن شعبٌ يعيش يومه والسكّين على رقبته، ولا يعرف متى تبدأ لحظة الجزّ». تعاظم قوّة حزب الله تقضّ مضجعهم أيضاً؛ «هو الذي يستقوي بسلاحه ويلغي الآخر اجتماعياً وسياسياً». مع ذلك، «الحزب» ليس «البعبع الأوحد»، بل تجربة الحكم بالطريقة الحاليّة، وتحديداً على «الطريقة الإسلاميّة»، لم تعد ناجحة، على ما يقول أحد أبناء بشري سمير طوق.
ad

يتحدّث الرجل «العلماني» بلسان كثيرين يرون في «أزمة» القرنة السوداء واحدة من القضايا المفصليّة التي تُعزّز قناعتهم بـ«كذبة» التعايش الإسلامي – المسيحي وسقوط فكرة «لبنان الكبير» ليطغى «حلم التقسيم» على ما عداه. لا يخجل هؤلاء بالخطاب عن «فدرلة»، باعتبارها نظاماً سياسياً عالمياً يعتمد اللامركزية الإداريّة ويحمي التنوّع الموجود وخصوصاً وجود المسيحيين، أما البديل، فهو على طريقة حزب الله: «نظام لبناني بلا مسيحيين أو على الأقل إجرين كرسي».

تجربة الحكم على «الطريقة الإسلاميّة» لم تعد ناجحة

هاجس سمير طوق وغيره من أبناء بشري أنّهم لا يُريدون أن يتحوّلوا إلى «مسيحيين ديكور»، كالأقباط في مصر والمسيحيين في تونس والجزائر وسوريا. نموذج المسيحيين في المنطقة يثير الخوف في نفوسهم؛ «نُريد أن نكون شركاء، لكنّ المسلمين لا يتقبّلون هذه الشراكة».
ad

وهذه نظريّة يدعّمها أهالي المنطقة بـ«حجج وبراهين وتجارب» ويضعون كلّ حدث يجري في البلد على «ميكروسكوب» التصنيفات الطائفيّة. ويرون «المسلمين» نموذجاً واحداً من التشدّد ولو اختلفوا في التزامهم الديني. شواهد «الاضطهاد» في بحر من المسلمين لا تنتهي. جرحٌ لم يندمل منذ القرن السابع وما تلاه من فتوحات إسلاميّة، مروراً بـ«ارتكابات» الدولة العثمانيّة التي سلّحت الدروز، وصولاً إلى استقواء حزب الله بسلاحه وتحوّل المسيحيين إلى أقليّة عدديّة تمتلك «صورياً» رئيساً للجمهوريّة بلا صلاحيّات، وأكثريّة في مجلس نيابي لا تقوى على كسر كلمة «الحزب» الذي قال «إمّا سليمان فرنجيّة أو الفراغ».
في عيونهم، «هو تاريخ إسلامي لم يكن لا متساهلاً ولا متسامحاً، يمتدّ إلى الإسلام الحديث الذي يُريد أن يحوّلنا إلى إسلام بالقوّة أو أن نكون أهل ذمّة وكفّار. ولذلك تمّ اضطهادنا باسم الدين لأننا نُغاير الغالب الإيماني في المنطقة». ففي رأي طوق، المسلمون عموماً لا يختلفون «في تكفيرنا».

«دولة الحزب»
في العلن، يؤكد أهالي بشري «ثقتهم بالدولة والأجهزة الأمنيّة». لكن، في الغرف المغلقة، الثقة بالأجهزة الأمنيّة مفقودة. «التوازن» الذي عاد إلى الدولة بعد عام 2005 لم يُغيّر كثيراً في قناعاتهم، لأنّ الدولة «أكلها» المسلمون أصلاً. ولا يرون إلا دولةً يرأسها الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله لخدمة النظامين السوري والإيراني، سعياً لإلغائهم. «يضع سلاحه على الطاولة ويأخذ البلد إلى حيث يُريد؛ هل سألتمونا إذا كنا نريد فتح جبهة في سوريا أو في اليمن؟ هل استشرتمونا في إلغاء فكرة المقاومة لحصرها في مقاومةٍ إسلاميّة؟ هل تُدركون أن العداء المسيحي لليهود وإقامة دولة يهوديّة أمرٌ يستفزّنا أكثر ممّا يستفزّكم؟ لماذا تُريدون تعليمنا في كل خطاب الوطنيّة والعداء لإسرائيل؟ لماذا تقفلون أبوابكم في وجوهنا؟».
ad

هكذا، ينتهي «نقاش الاستضعاف» بخلاصة واحدة: انفراط العقد الاجتماعي الحالي حتّى يكون حلم التقسيم وإنشاء الدولة المسيحيّة واقعاً.

«الحل بورشة سياسية وفكريّة»
هذه النظرة الغالبة لدى أبناء بشري يُعارضها آخرون. هؤلاء الذين جابهوا أحزابهم المسيحيّة الراديكاليّة ورفضوا الانخراط في الاقتتال الطائفي، لا يُريدون الذهاب نحو «الطلاق البائن»، ولو أنهم يستنكرون «الفرض السياسي والاجتماعي والديني» الذي تحوّل إلى «أسلوبٍ معتاد». رئيس البلديّة السابق أنطوان الخوري طوق لا يرى أن نجاة المسيحيين تكمن في نسف لبنان ولا حتّى في «فولكلور» «التعايش الإسلامي – المسيحي» باعتباره «كليشيه» غير ناجع. بالنسبة إليه، الحل هو «إقامة ورشة سياسية وفكريّة في البلد تُخرجنا من حال المراوحة».
يُركّز طوق على سلاح حزب الله الذي «وضع يده على لبنان ويمتلك حق الفيتو على أي طرحٍ سياسي»، وعلى «أسلوب المسلمين المتشددين الذين يضيّقون الخناق الاجتماعي في بعض الأحيان، ما يوقظ نزعة التقسيم والفدرلة».
رغم ذلك يؤمن الناشط السياسي والاجتماعي أن المسيحيين لم يعيشوا الاضطهاد على مرّ تاريخهم بل كانوا جزءاً أساسياً من النهضة السياسية والفكريّة واللغوية في العالم العربي، باعتبارهم جزءاً من العالم العربي «وليسوا جاليةً أجنبيّة».
ad

التراجع الفكري والأزمات السياسيّة المتلاحقة جعلا من لبنان «بلداً لا يُشبهنا» ويعيش حالة «الغالب والمغلوب» التي لا يمكن أن تستمر. بالنسبة إلى طوق، «الانسجام السياسي إثر التحالفات التي حصلت بعد عام 2005 قلّص من الفروقات الموجودة وساهم في الاندماج المجتمعي، ليتبيّن بالتالي أن أسباب الخلاف سياسيّة وهناك مصلحة أحزاب سياسيّة تعمل على تأجيجها أو كبحها».
وعن تحسّسه من واقع الأقليّة المسيحيّة في بحرٍ من العالم الإسلامي، يعتبر طوق أن «المأساة الحقيقية هي تراجع الفكرة العربية لصالح الفكرة الإسلاميّة، خصوصاً أنّ المسيحيين كانوا من المُساهمين الأساسيين في إرساء مفاهيم العروبة الحضاريّة».

اترك تعليق