التعليم للأغنياء فقط، هي القاعدة التي كرّستها المدارس الخاصة أثناء الأزمة. لم يكن ممكناً أن تفعل ذلك من دون أن تتحدّى وزارة التربية والقوانين التي ترعى هذا العمل. وبنتيجة ذلك، فرضت على طبقات المجتمع المتوسطة وما دون، التكيّف في مواجهة زيادة الأقساط إلى أرقام فلكية. أي أن المدارس الخاصة لا تُمارس «رسالة» كما تزعم، بل تدير مهنة تجارية مربحة جداً، وبقوّة نفوذها تخفي هذه الأرباح وراء ستار «مؤسّسات لا تبغي الربح». هي واحدٌ من أقوى الكارتيلات في لبنان، إذ إنها تملك مصالح تجارية مشتركة وقادرة على فرض ما تريده بقوّة القانون أو بتجاوزه.
تقول رئيسة لجان الأهل في المدارس الخاصة لمى الطويل، إن «كارتيل المدارس الخاصة أقوى من وزارة التربية»، مشيرةً إلى أن المدارس حدّدت ميزانياتها للعام الدراسي المقبل بما يتناسب مع تطلعاتها إلى حجم الأرباح المتوقّعة. ووسط غياب الحدّ الأدنى من الرقابة الرسمية، خرقت القوانين التي تجعلها خاضعة لوصاية وزارة التربية إذ «منعت التدقيق المالي في ميزانياتها لإخفاء الأرقام الفعلية لأكلافها التشغيلية، وأبرزها رواتب المعلمين. رغم ذلك، ربطت كل إيراداتها بالدولار النقدي، وهو أمر غير قانوني». وترى الطويل أن هذه البدعة «اخترعتها المدارس الخاصة لجني الأرباح على حساب مستقبل جيل كامل بات نصفه مهدّداً بالانسحاب من العملية التعليمية والانتقال إلى واقع تعليمي غير مُرضٍ، أو الاستعانة بالأحزاب لمساعدته».
فجاجة الأقساط رسّخت أمراً واقعاً يقضي بالاكتفاء بعدد قليل من الطلاب في الصف الواحد؛ إنقاص العدد يوفّر النفقات على إدارة المدرسة، وفي الوقت نفسه يدرّ أقساطاً بالدولار النقدي مربحة أكثر لجيوب أصحاب المدارس. ففيما بلغت الزيادة في الأقساط بالدولار النقدي، ضعفين بالحدّ الأدنى، بات ممكناً لإدارات المدارس الاكتفاء بثلث الطلاب توازياً مع الحفاظ على هوامش ربحية مرتفعة. في المدارس التي كان فيها القسط يبلغ 500 دولار أو أقل، أصبح الآن ما بين 1000 دولار و1800 دولار. أما في المدارس التي كانت تتقاضى 1200 دولار وملايين الليرات اللبنانية، فصار القسط يُراوِح بين 2500 دولار و3000 دولار. وفي المدارس التي تصنّف نفسها «نخبة»، حُدّد القسط بما يزيد على 6000 دولار.
ففي غالبية المدارس الخاصة المنضوية في اتحاد المدارس الخاصة (الإنجيليات، الكاثوليكيات، الرهبانيات، مدارس المصطفى، المقاصد، المبرات، الأمل، الحريري، وغيرها) ستُراوِح الأقساط بين 1200 و2500 دولار إضافة إلى جزء آخر من القسط بالليرة اللبنانية. علماً أن إدارة المدرسة الجعفرية حدّدت القسط بأقل من 400 دولار. ورغم صعوبة الحصول على تصريح من إدارة الليسيه فردان بهذا الخصوص، إلا أن مديرها جان مارك أوبان، وجّه كتاباً إلى الأهالي يعزو فيه الزيادة في القسط إلى زيادة أجور العاملين غير المنتمين إلى الكادر التعليمي.
في الواقع، إن إدارات المدارس لا تتذرّع بارتفاع الأكلاف لزيادة الأقساط، بل سلكت طريقاً أسهل لمناقشة أولياء الأمور، من خلال مقارنة الأقساط بالدولار قبل عام 2019 مع القسط المحدّد للعام الدراسي المقبل. فعلى سبيل المثال، تتباهى ثانوية الروضة بعرض أسعارها السابقة التي كانت تبلغ 6533 دولاراً لقسط الصف التاسع الأساسي للعام الدراسي 2017 – 2018، وأنه أصبح 4250 دولاراً، أي أرخص، للعام الدراسي 2023 – 2024. هذا السلوك ينسحب على كل المدارس متغافلين عن أن المعيار الاقتصادي والاجتماعي يربط بين القسط بوصفه كلفة، ومتوسط الأجر بوصفه مصدراً أساسياً للإيرادات. فرغم أن بعض الأكلاف التشغيلية في المدارس أصبحت بالدولار النقدي، إلا أن حجم الرواتب التي تدفعها إدارات المدارس، وهي الجزء الأساسي من أكلاف المدارس انخفض. أما تصحيح الأجور، فهو ما زال أدنى بكثير من التضخّم اللاحق بالأسعار، وهو حتماً أدنى بكثير من أي مقارنة بين الأجر بالدولار سابقاً والأجر بالدولار الآن، إذ إن مداخيل الأجراء والأساتذة وسواهم من العمال، خسرت الكثير.
إذاً، هل المدارس محقّة في زيادات هائلة كالتي فرضتها للعام الدراسي المقبل؟ يُفترض أن تقوم وزارة التربية بتدقيق الميزانيات السنوية للمدارس، التي يجب أن تأتي في مطلع كل سنة إلى وزارة التربية ممهورة بتوقيع لجنة الأهل. ما هو واضح، أن لجان الأهل ليست قادرة على فرملة وحشية المدارس، بعكس وزارة التربية التي تتقاعس عمداً. ففي تصريح سابق، قال المدير العام للتربية بالتكليف، ورئيس مصلحة التعليم الخاص عماد الأشقر، إنه سيتم تدقيق الميزانيات بعدما أُلزمت المدارس بإرفاق فواتير تبرّر النفقات. لاحقاً، استُقدمت شركة بريطانية وبدأت عملية التدقيق لتشمل 101 مدرسة، وخلصت إلى أن 74 منها غير قانونية. لكنّ وزارة التربية لم تقم بردع المدارس الخاصة، بل سايرتها رغم إدراكها أن هذه الميزانيات فيها تهريب للأرباح بالدولار النقدي، إذ لم ينتج من خطوة الوزارة أي فعل رقابي. تقول رئيسة اللجنة الفاعلة للمدرّسين المتعاقدين في التعليم الأساسي، نسرين شاهين، إن «الوزارة لا تتابع زيادات الأقساط التي يُفترض أن تكون تحت المراقبة، وألا تزاد إلا بعد تدقيق الميزانيات وحساب نسب الكلفة التشغيلية، وكشوفات المصاريف بشكل دقيق»، لافتة إلى أن الأموال التي تدخل إلى المدارس لا تُسجل في معظمها. ويُجبر الأهالي على تسديد الأقساط بالدولار «رغم أن هذا الأمر غير قانوني». الوزارة سمحت بزيادة الأقساط «30% فقط وليس كما تفعل المدارس اليوم»، لكنّ وزير التربية «اعترف بعدم قدرته على وضع حد لما يحصل، فضلاً عن أن المجالس التحكيمية معطّلة». ويزداد الوضع سوءاً، عندما يتبيّن أن المدارس قادرة على طرد التلميذ الذي يتقدّم أهله بشكوى ضدّ الزيادة. واللافت، أنه ليس هناك معيار واضح لتسديد الرواتب والأجور في القطاع. صحيح أن المدارس ستدفعها بالدولار بما يراوح بين 300 دولار و400، وأنها قد تصل إلى 1000 دولار، لكن زيادات كهذه لا تبرّر عملياً زيادة الأقساط بالجنون الحاصل.
الكارتيل فرض على المجتمع ما يريده من دولرة نقدية للإيرادات (الأقساط)، ليصبح مشاركاً عن قصد في الفرز المجتمعي. وبحسب رئيس مؤسسة البحوث للاستشارات، كمال حمدان، فإن هناك تحوّلات كبيرة في المجتمع ناتجة من عملية الدولرة النقدية. فالفرز يحصل بين أجراء القطاعين العام والخاص، وداخل الاصطفافات البرجوازية أيضاً… إذ إن هذا النمط من التسعير والدولرة، أتاح للأرباح التفلّت في ظل احتكارات وكارتيلات لديها وزن كبير داخل مراكز القرار. يشير حمدان، إلى أن الفرز واضح في قطاع التعليم، كما في قطاع الاستشفاء، وفي القطاعات الأخرى أيضاً. «هناك انخفاض عام في مستوى التعليم، مع تفاوتات بين المدارس الخاصة والمدارس المجانية، والمدارس الرسمية الأكثر تضرراً». الطويل تلفت إلى أن «فكرة التعليم للأغنياء، أصبحت شعبية أكثر ومتداولة بشكل مثير للسخرية، إذ إنها ترخي بظلالها على الجيل المقبل المعرّض للتسرّب المدرسي والتحوّل إلى جيل ميليشيات». أتت هذه الرصاصة في رحم الطبقة الوسطى بمدلولاتها وقاعدتها التي كنّا نعرفها قبل الأزمة.