حذّر مسؤول مصرفي لبناني كبير من تبعات التوغل في حال عدم اليقين في القطاع المالي، مع استمرار الإبهام الذي يحوط خلاصات التوجهات الحكومية والسياسية والإجرائية بشأن مركز صناعة القرار في السلطة النقدية قبيل أسبوعين فقط من انتهاء ولاية حاكم مصرف لبنان رياض سلامة نهاية الشهر الحالي، مما يرفع منسوب القلق من تجدّد الفوضى في أسواق القطع وإعادة تزخيم الضغوط على سعر صرف الليرة.
ولاحظ المسؤول في اتصال مع «الشرق الأوسط»، أن تعمّد الغموض أو إلقاء الأعباء على نواب الحاكم لتولي المرحلة الانتقالية، بذريعة الاستناد حصراً إلى مندرجات قانون النقد والتسليف، يشكل إقراراً صريحاً بالعجز عن إدارة ملفات حيوية لا تتصل بشغور الموقع فقط، وإنما بمخاطر زج القطاع المالي ومؤسساته بقيادة البنك المركزي، في مواجهة مسؤوليات تتعدّى قدراته في ظل الفراغات المتفشية في السلطات الدستورية والشلل الكبير الذي يسود مجمل مؤسسات القطاع العام.
وباستثناء التعويل على مردود الموسم السياحي الصيفي، والناشط خصوصاً بهمم المغتربين اللبنانيين والعاملين في الخارج، يلفت المسؤول إلى التوسع غير المسبوق في حجم الضغوط على مرافق عامة تتصف بحساسية عالية، عقب تمددها غير البنّاء من مركز القرار النقدي والمصرفي إلى إدارة ومهام القطاعات الأمنية والعسكرية، مما ينذر بالتقدم سريعاً إلى مرحلة «فشل» الدولة ونزع السقوف التشريعية والتنفيذية عن المؤسسات العامة ومهامها الحيوية في حفظ التحييد النسبي للشأنين النقدي والأمني عن الاصطفافات الداخلية الحادة.
«موديز»: لا تحسن
وتختصر وكالة «موديز» الدولية للتقييم الائتماني، عناوين التحدّيات الماثلة بالتعرّض المستمر بالارتفاع وبأكثر حدّة للأزمة الاقتصاديّة والماليّة والاجتماعيّة، في حين يتعمّق ضعف المؤسّسات ونظام الحوكمة واندثار القوّة الشرائيّة جرّاء التراجع الكبير في سعر الصرف والارتفاع الملحوظ في مستويات التضخّم. بينما تبقى نقطة الضوء الوحيدة متجلية في التزام الدول المانحة بدعم لبنان شريطة تطبيق برنامج الإصلاح المعدّ من قبل صندوق النقد الدولي.
وتؤكد، في أحدث تقرير لها، أنّها لا ترتقب أي تحسّن في تصنيف لبنان في المدى القريب، باعتبار أن أي تقدم مشروط مسبقاً بتطبيق إصلاحات جوهريّة على مدى سنوات عدّة من جهّة، وحصول تقدّم ملحوظ في دينامية إدارة الدين العام من جهة مقابلة. وهو ما يوجب عملياً وجود حكومة فاعلة وجهود تشريعية موازية تطلق خطة إنقاذ متكاملة تركز خصوصاً على محفزات استعادة النمو الاقتصادي وتحديد مستويات الفوائد وإيرادات الخصخصة والقدرة على تسجيل فوائض أولية كبيرة في الموازنة العامة وضمان استدامة الدين في المستقبل.
وفي إشارة صريحة إلى مواطن العجز، تشير المؤسسة الدولية إلى عدم تعيين حاكم جديد للبنك المركزي رغم ضيق الوقت لانتهاء ولاية الحاكم الحالي. كذلك عدم تمكّن المجلس النيابي من انتخاب رئيس جمهوريّة جديد منذ بدء الفراغ الرئاسي في أوّل تشرين الثاني من العام الماضي، فضلاً عن الفشل المحقّق بتشكيل حكومة جديدة منذ إتمام الانتخابات النيابيّة الأخيرة في أيار 2022.
وقد حافظت «موديز» على تصنيف لبنان السيادي عند الدرجة «C»، مع التنويه بأنّ هذا التصنيف يعكس احتماليّة كبيرة بأن تتخطّى خسائر حاملي السندات الحكومية المصدرة بالدولار نسبة 65 في المئة، بينما سجّل نتيجة «caa2» المتدنية في معيار القوّة الاقتصاديّة؛ نظراً للانكماش الاقتصادي الكبير وتراجع مستويات الدخل ما دفع بنحو 80 في المئة من المواطنين إلى ما دون خطّ الفقر ومنهم نحو 36 في المئة إلى ما دون خطّ الفقر المدقع.
وفي ترجمة الحيثيات الخاصة بتدني التصنيف السيادي إلى الخانة الأقرب للتعثر، حصل لبنان على نتيجة «ca» في معيار التعرُّض لمخاطر الأحداث، نظراً لمخاطر السيولة وتعرّض القطاع المصرفي الكبير للدين السيادي. بينما سجّل لبنان نتيجة «ca»، بالنسبة للقوّة المؤسّساتيّة، مما يعكس الضعف في بيئة الحوكمة، وذلك في ظلّ ضعف فعاليّة السياسة الماليّة للدولة تماشياً مع محدوديّة فعاليّة السياسات النقديّة والماليّة عند أخذ الضغوط الاقتصاديّة والخارجية بعين الاعتبار.
أمّا على صعيد القوّة الماليّة، فقد حاز لبنان نتيجة «ca»، التي تعكس دين الدولة الكبير الذي قد يتسبب بخسائر كبيرة للدائنين في حال تعثّرت الدولة عن الدفع. ووفق «موديز» فإنّ مسار الدين يبقى عرضة بشكل كبير لديناميّات نمو وتضخم واحتياطات عملة أجنبيّة معاكسة، وهو ما يشير إلى إمكانيّة تسجيل خسائر إضافيّة في ظلّ غياب خطّة إعادة هيكلة تزامناً مع دعم صندوق النقد أو الانتقال إلى نظام نموّ مستدام.
ولم يفت المؤسسة التنويه باستنتاجات صندوق النقد التي أكدت أن الانكماش التراكمي للاقتصاد اللبناني تخطى نسبة 40 في المئة قياساً بقيمة الناتج المحلي قبل انفجار الأزمات في خريف عام 2019، وتدهور العملة المحليّة بنسبة 98 في المئة مع نسب تضخّم تتجاوز مستويات 100 في المئة سنوياً.
كما أشار التقرير إلى الكلف الكبيرة للتعديل الاقتصادي نحو نموذج نمو جديد وأكثر استدامة؛ حيث إن القدرة التنافسية وقدرة النمو الاقتصادي في لبنان قد تراجعتا منذ اندلاع ثورات الربيع العربي في عام 2011، التي نتج عنها تباطؤ شديد في الحركة السياحيّة، وتقلُّص جذري في الحركة التجاريّة، وزيادة الأعباء على البلاد مع تدفُّق النازحين السوريين إليها الذين أصبحوا يشكلون نسبة 25 في المئة من إجمالي عدد السكان.