الإدارات العامة: رحلة البحث عن موظّف متعاون.. وآلة غير معطّلة!

في ظلّ أزمة إقتصادية ومالية تستفحل يومياً بغياب المعالجات الجذرية على المستوى الرسمي، تظهر المبادرة الفردية كعامل أساسي ساهم حتى الآن في الحفاظ على حدّ أدنى من تماسك الإدارة العامة. فيغدو أصحاب هذه المبادرات كعصب أساسي لها، وضمانة أقلّه لمنع تدهور مؤسسات الدولة بشكل أكبر. وتبقى الأخلاقيات الفردية التي تسيّر البعض في وظيفتهم، الرادع الأساسي الذي يحدّ من ركوب موجة الفساد المستشري مع الفوضى. فيأخذ هؤلاء على عاتقهم مسؤولية الحفاظ على ما تبقّى من «خيال» دولة، السلطة فيها عاجزة أو فاقدة للأهلية في تأمين حقوق المواطنين عموماً، ومن بينهم «موظفو الدولة». هذا عدا عن كونها لا تظهر نيّة جدية لتطبيق مبدأ الثواب والعقاب في محاسبة المقصّرين، بصرف النظر عمّن قصّر وفي ماذا.

هذه الإنطباعات تتعزّز تباعاً من خلال إستكمال الجولة الإستطلاعية على مختلف الإدارات الرسمية في منطقة زحلة. والتي نتابعها في التقرير التالي في «مصلحة مالية البقاع».

لا شك أنّ وظائف وزارة المالية شكّلت في فترة من الفترات إغراء مضاعفاً للشابات والشباب. فاستقطبت طاقاتهم وكفاءاتهم التي لا يزال البعض يبدي تمسّكاً في توظيفها بإدارة المؤسسة التي إختارها كمصدر لدخله، ليتمسك بتحقيق الإنتاجية فيها ولو بالحدّ الأدنى. إلا أنّ الأزمة باتت تهدّد بتفريغ هذه الإدارة من الكفاءات، بعدما ساد توجه جدّي لدى جزء من الموظفين الذين يشغلون مراكز مسؤولة لتقديم الإستقالات، وفقاً لما تؤكده مصادر في وزارة المالية.

إنقلب تهافت الشباب على وظيفة وزارة المالية منذ بدء الأزمة إلى حالة وجوم تسيطر على أجواء غرف ضاقت بمكاتبهم. فكما في سائر الدوائر الرسمية، تسبّبت الإضرابات المتواصلة بفوضى في توزيع المهمّات، لتضاعف مسؤوليات من قرّروا المضي بإنجاز مهمّاتهم على رغم كل الصعوبات، ما ألقى على أكتاف هؤلاء أعباء كبيرة، إلى جانب مهمّات زملائهم المعتكفين عن العمل. فإذ ببعض الموظفين يتقاضون رواتبهم من دون أي جهد، بذريعة أنّ الراتب لم يعد كافياً للإنتقال الى مكان العمل.

فعلى رغم الصرامة التي أرادت الحكومة إظهارها من خلال منحها موظّفي القطاع العام قيمة أربعة رواتب إضافية، شرط إلتزام الموظف بتأمين 14 يوم عمل على الأقل، ثمّة قناعة لدى الجدّيين في تأدية وظائفهم، بأنّ الدولة غير قادرة على محاسبة أي موظف مقصّر، للأسباب نفسها التي تجعلها غير قادرة على محاسبة الموظف المرتشي. فوراء كل «موظف دولة» هناك جهة سياسية أوصلته الى مركزه، ومحاسبة موظف من إنتماء معين ستواجه بمطالبة «معاملة بالمثل» بحق موظف من إنتماء مواز، وهذا ما يسقط الإدارة العامة في محسوبيات، تشجّع البعض على أخذ الوظيفة رهينة، يبتزّون من خلالها الدولة ومواطنيها، والذريعة المتكرّرة حقهم المشروع بانتزاع راتب يحفظ الكرامات.

لا موظفين متعاونون

مئة موظف تقريباً في مصلحة مالية البقاع. ولكن قاصدها قد لا يكون محظوظاً بإنجاز معاملته ما لم يعثر في الداخل على موظف واحد متعاون. هذا ما يحصل مع أكثر من مواطن قصد الدائرة في الفترة الأخيرة. اذ تروي دانييل تجربة شخصية في معاملة بسيطة أنجزتها لصديق، إستغرقت ثلاثة ايام، بالإضافة إلى مضاعفة النفقات الخارجية التي كان عليها تسديدها. وكل ذلك لأنّ أحد الموظفين قرّر عدم التعاون معها حتى في إسداء المشورة. ولما عثرت على موظفة متعاونة، أُنجزت المعاملة في دقائق. ولكن ذلك أيضاً بعدما تكامل العنصر البشري الأخلاقي مع إصلاح العطل الذي طرأ على النظام الإلكتروني الذي يربط الدائرة بالإدارة المركزية.

تقول دانييل: «نحن كمواطنين متفهمّون لأوضاع الموظفين وحقوقهم، وحتى لمعاناتهم الشخصية مع الموارد الموضوعة بين أيديهم، وخصوصاً نظام الربط الإلكتروني، الذي إمّا يكون معطّلاً مركزياً، أو إذا «قلّع» يكون بطيئاً جداً. ولكن هذا ليس سبباً كي لا يبدي الموظف إستعداداً لخدمة من يقصد الدائرة، ويتفهّم حرقته على إنجاز معاملته قبل إنقضاء المواعيد النهائية المحدّدة لها. فإذا كانت السلطة سيّئة، هذا لا يمنعنا كمواطنين من أن نتعاون مع بعض، خصوصاً أننا كلنا ضحايا الأزمة المالية. ومن غير الجائز أن يُعاقب المواطن لأنّ راتب الموظف لا يكفيه».

وإذ خرجت دانييل بخلاصة حول كون «التجربة في دوائر الدولة تختصر بالبحث عن الموظف الجيد، والّا فإنها لن تكون سوى رحلة عذاب بالنسبة للمواطنين الذين يضطرون للتردّد أكثر من مرّة احياناً لإنجاز معاملة لا تستغرق دقائق»، تساءلت في المقابل «عن الذي يمنع الدولة من تعديل رواتب الموظفين بما يخلق التوازن الذي يسمح بإطلاق عجلة الإنتظام المالي والإداري الى السكة، خصوصاً بعدما رفعت الدولة قيمة بعض الضرائب على المواطنين لسد ثغرة العجز الذي وقعت فيه من جيوب الناس مباشرة».

إنتاجية الحدّ الأدنى

مصادر مسؤولة في مصلحة وزارة المالية لا تبدو بعيدة عن هذه الإستنتاجات. فتعرب من جهتها عن حالة «قرف» بلغها أصحاب الكفاءات في الإدارة، إذ أن الرئيس غير قادر على إلزام المرؤوس بأي شيء. والأخير قد يقرر الإعتكاف عن العمل أو الإضراب، ويحظى بغطاء من الرابطة، فيما تواجه محاولة الزامه بالعمل بلوم من قبل الرابطة واتهامه بإفشال جهودها لإنتزاع حقوق الموظفين. وهذا ما يوقع رؤساء المصالح والدوائر في الحيرة، فهناك قوانين وأنظمة وظيفية يجب تطبيقها، وهناك معاملات مواطنين يجب إنجازها، ولكن أيضاً هناك موظفون بحاجة لراتب يحفظ كرامتهم حتى يتمكّنوا على الأقل من الوصول الى أماكن عملهم.

وإنطلاقاً من هنا تحاول الإدارة المحلية لوزارة المالية أن تؤمّن الإنتاجية بالحدّ الأدنى، من دون أن يكون مرضياً لمن يطالبون بتسيير شؤونهم الإدارية بدينامية أكبر. إلا أنّ عقدة الإدارة هنا لا ترتبط فقط بالموظف، وإنما أيضا بالشحّ الذي تعانيه في الموارد. فتصوّروا مثلاً أن تنجزوا معاملة من دون الإستحصال على الوصل الذي يجب أن يرفق بمطلق معاملة لإستكمال ملفّها، لأنّ الوصل غير متوفر بالأساس. هذا الواقع كان سائداً بالتزامن مع التحضير لهذا التقرير، حيث ذكرت معلومات أن الإدارة المركزية أبلغت المصلحة بعدم قدرتها على تأمين الإيصالات لمالية البقاع بالطرق المعهودة، وطلبت من المصلحة أخذ المبادرة في إجتراح الحلول على مسؤوليتها، فتأمّنت دفاتر الوصل بنفقة خاصة.

يُروى أيضاً أنّ الآلة الطابعة في هذه المصلحة تعطلت، وعلى رغم الكتب العديدة التي أرسلت للإدارة المركزية لتأمين نفقات إصلاحها أو إستبدالها، لم تحل المسألة سوى جزئياً وبمبادرة فردية من أحد المواطنين الذي أصلح العطل على مسؤوليته حتى يتسنى له الحصول على نسخة من معاملته المنجزة. أما عن واقع نظام الربط الإلكتروني الذي لا يمكن من دونه إنجاز أي معاملة، فحدّث ولا حرج. فإذا لم يكن العطل مركزياً يكون لامركزياً، وفي كل الأحوال «السيستم» بطيء دائماً، وقد تستغرق معاملة تحتاج لدقائق، ساعات.

وعلى رغم ما حكي عن إصلاح الأعطال التي طرأت عليه في الفترة الأخيرة، تسري معلومات حول عدم التمكّن من إستعادة البرامج الخاصة بصندوق المالية، وبالتالي فإنّ المصلحة لا تستطيع في معظم الأحيان تقاضي رسم المعاملات التي تجريها، وتقوم بتحويل صاحب المعاملة إلى مراكز تحويل الأموال لإستيفاء الرسم. وحول هذه الآلية تدور تساؤلات عدّة. وبحسب العالمين بشؤونها فإنّ هذه المؤسسات تتقاضى الرسوم نقداً وتحوّلها إلى وزارة المالية مصرفياً.

وقد لفت أخيراً تعزيز دور مؤسسة من بينها، إستحدثت مركزاً لها في كافيتريا سراي زحلة، ما عزّز من فرص إنجاز معاملات الناس في مصلحة وزارة المالية بالجزء الممدد من السراي، لتسدّد رسومها فوراً في الكافيتريا الكائنة بطابقها الأرضي، وهذا ما اعتبر أفضلية منحت لهذه المؤسسة على غيرها من مؤسسات تحويل الأموال، وقد باتت تفرّخ في كل حيّ من زحلة وقرى قضائها. هذا مع العلم أن المؤسسة المذكورة تابعة لإحدى شركات الصيرفة التي ذاع صيتها خلال الأزمة من خلال شراء الشيكات المصرفية، وهو ما خلق شبهات وشكوكاً حول هندسات يمكن أن تكون قد وضعت لتسييل تلك الشيكات لمصلحة المستفيدين منها. وهذه معلومات تستحقّ مزيداً من التدقيق والتحقّق، خصوصاً إذا ما قورنت بسرعة إنتشار فروع هذه المؤسسة، وما بدا أنها تتمتعّ به من أفضلية حتى في الإستحصال على النماذج المالية التي يحتاجها المواطنون لإنجاز معاملاتهم.

يبقى أنّ معاناة الناس لم تعد تختصر في دوائر الوزارات الرسمية التي تشكل مؤسسات زحلة الرسمية نموذجاً عن إهترائها في مختلف المناطق، إنما هي تطال شؤون المواطن الحياتية، وباتت تنتهك حتى أبسط حقوقه بالصحة. وحول واقع الضمان الإجتماعي الذي لم يعد يؤمن أي ضمانة للناس حديث آخر…

اترك تعليق