ما هو الموت “هنا”، وكيف نصفه؟
لو كان لميتٍ أنْ يحدّد الموت، أنْ يصفه، “هنا” (إذ لا لزوم لوصفه “هناك”)، أنْ يصوّره، أنْ يقدّم فكرةً ملموسةً عنه، أنْ يشرحه للعامّة والخاصّة من الناس، للفلاسفة وللأغبياء على السواء، لذوي العقل وللفالتين من عقالهم، لأصحاب الضمير وللمبلّطة ضمائرهم بالإسمنت المسلّح، هل كان ليجد وصفًا أجدى ممّا هو هذا الموت “هنا”، وممّا هو عليه لبنان، بطبقته الحاكمة، بسياسته، بسياسيّيه، برجال ماله، باقتصاده، باجتماعه، بأهله، بأرضه، بعيشه، بشوارعه النتنة، ببيئته المشوّهة، بسرّاقه، بزعرانه، بالقتلة، وبقسمات وجوه البائسين اليائسين الفقراء الجوعى الباحثين عن ظلٍّ أو عن لقمةِ خبز؟
لو كان للكاميرا أنْ تصوّر الموت، مَعيشًا ومجسّدًا، بإيقاعاته وأحواله ومراتبه، هل من فرصةٍ سانحةٍ لهذه الكاميرا أفضل من فرصة لبنان هذا، وهنا، والآن، وهو يحشرج، ويتلوّى، ويتقيّأ نفسه، وينتن، ويُشوى، ويُقتَل، ويُهان، ويُذَلّ، ويُبهدَل، على مدار الثواني واللحظات؟
هذه الجثّة العموميّة التي تُدعى “لبنان اليوم”، الماثلة أمام العالم، أمام الكون، وأمامنا، وفينا، هي هذا الموت الذي قد يتردّد المرء في أن يشتهيه لعدوٍّ، فكيف يشتهيه لنفسه، ولبلده، وكيف يعيشه؟!
قد لا يملك أيٌّ منّا، للفجيعة اللبنانيّة، حلولًا مثاليّةً، واقعيّةً، موضوعيّةً، أو تقريبيّةً، شافية. لكنْ فليملك أيٌّ منّا “سلطة” (حرّيّة) أنْ يرفض المشاركة في هذه الفجيعة، أنْ يأبى تأجيجها أو التغاضي عنها، بل أنْ يترفّع، بل أنْ لا يمعن، بل أنْ لا يرضخ للأمر الواقع، بل أنْ لا يصير جزءًا منه، بل (يجب) أنْ يفعل فعلًا نبيلًا، على طريقة مَن ينشب مخالبه، ومَن يزأر، ومَن يجترح، ومَن “يرى”، ومَن يبصق، ومَن يكابر، ومَن يعوي، ومَن يواجه المخرز بيديه العاريتين وبعينيه، ومَن ينبح، ومَن يموء، ومَن يدعو إلى إضرام النار بهذا الفساد العموميّ، بهذا القتل القياميّ، وبهذه الجثّة العموميّة التي تُوصَم بأنّها جثّة لبنان، في حين أنّ لبنان نفسه هو براءٌ من جثّته هذه، ومتنكّرٌ لها، لأنّه لا يبتغيها، ولا يريدها، ولا هو إيّاها.
أكثرُ ما في هذا الموت من موت، أنّنا نتعايش معه، ونعيشه، ونقبله، ونتقبّله، ونكاد “نحبّه”، على غرار مَن يصير يحبّ الديكتاتور و”الأخ الكبير”، كما في رواية جورح أورويل.
أمّا ذروة هذا الموت اللبنانيّ فهي حين نتدوّده (من دود)، ونتعفّنه، ونموته. فبعضنا يقهقه تحت شمس هذا الموت، وبعضنا يعربد، وبعضنا يتماوت، وبعضنا يمعن، وبعضنا يتملعن، وبعضنا يتعفّف، وبعضنا يتزبّل (من زبالة)، وبعضنا يتخبثن، وبعضنا يتغاضى، وبعضنا يتواطأ، وبعضنا يتقاود (من قوّاد)، وبعضنا يتورّط، وبعضنا ينغمس، وبعضنا يتباله، وبعضنا يتمسكن، وبعضنا يتفاسد، وبعضنا يقتل، وبعضنا يدعس على بعض، وبعضنا يركب بعضًا، وبعضنا يمتطي بعضًا، وبعضنا يهبهب، وبعضنا يبكي، وبعضنا يرثي، وبعضنا يضرم النار بنفسه، وبعضنا ينتحر، وبعضنا يسدّ بوزه، وبعضنا “سِيري فعين الله ترعاكِ”.
… أمّا أنْ يُكشَف النقاب، في عشيّات الرابع من آب المشؤوم، عن حقائق تفجير مرفأ بيروت المأسويّ، عن أسبابه ومسبِّبيه، والمتورّطين فيه، أو أنْ تُعاد إلى الليرة كرامتها، أو أنْ لا يُقال للسلاح الميليشيويّ الذي يسرح ويمرح “محلا الكحل بعينك”، أو أنْ يُنتخَب رئيسٌ للجمهوريّة، أو يُعيَّن حاكمٌ للمصرف المركزيّ، وقريبًا قائدٌ للجيش، أو يوضع حدٌّ لحفلة الشرّ، لوليمة القتل، ولصفقات المقايضات الذمّيّة والانتهازيّة السياسيّة المقذعة والفاسدة، وإلى آخره، فهذه من المستحيلات في دنيا الموت اللبنانيّة، في حين لا أسهل من أنْ يموت (بل من أنْ يُقتَل) امرؤٌ بسبب الحرّ القائظ وامتناع الكهرباء، أو يُقتَل امرؤٌ قتلًا مشهودًا في القرنة السوداء، أو أنْ يُصدِر أحدهم (؟!) “فتوى” قضائيّة يطلب فيها أنْ يزجّ بصحافيّةٍ حرّة في السجن بتهمة التعبير عن الرأي.
في ما سبق أعلاه، بعضٌ ممّا يُقال في وصف الجثّة العموميّة اللبنانيّة، وفي وصف الموت اللبنانيّ العميم. وهو قليل.
ارفضوا هذا الموت. فلنرفضه. عارٌ ألّا نرفضه. عارٌ ألّا ترفضوه!
رأي حر عارٌ ألّا ترفضوه! (عقل العويط)