أفتى رئيس كتلة الوفاء للمقاومة النائب محمد رعد في تفسير حزب الله لإتّفاق الطائف بالقول: «من لا يريد المقاومة لا يريد إتّفاق الطائف»، متهماً خصومه بأنهم «حلفاء إسرائيل» ومحذراً من مغبة الخروج عن تفسير حزب الله لإتفاق الطائف. وبهذا قلب رعد الأدوار إذ وضع حزبه في مقام المدافع الشرس عن الدستور في مواجهة من يطالب بدولة واحدة وجيش واحد وسلطة واحدة.
تأتي الفتوى الجديدة بعد إشتباكات مخيم عين الحلوة التي كانت الدولة اللبنانية مجرد شاهد عليها، وبعد جريمة عين إبل المجهولة الظروف وبعد إنقلاب شاحنة خضار في الكحالة كانت تنقل صناديق مجهولة المحتوى إقتضى الحفاظ على سرية حمولتها انتشاراً مسلحاً من عناصر الحزب المكلفين بالمواكبة ما أدى إلى إشتباك بالرصاص الحي وسقوط مواطنين لبنانيين. المواطن المغدور في عين إبل والمواطنان اللذان سقطا في الكحالة وقد سبقتهم سلسلة طويلة من اللبنانيين هم شهداء فتاوى حزب الله وقبله إجتهادات النظام السوري في تبرير وجود السلاح خارج مؤسسات الدولة وخصخصة المقاومة بتحويلها حقاً حصرياً لمرجعية مذهبية أعطت لنفسها دون سواها الحق في تصنيف المواطنين بين خائن ومقاوم، كما أباحت لنفسها إجتياح الساحات وغزو العاصمة والجبل بالسلاح المقاوم عينه، ليترجم ذلك بعد جولات من العنف والدم بتفسير الدستور تجديداً وتمديداً وبأعراف الثلث المعطل وحكومات الوحدة الوطنية والتوقيع الثالث وبدع الأكثرية الموجبة حضوراً واقتراعاً لإنتخاب رئيس للجمهورية .
اللبنانيون على اختلافهم ومعهم حزب الله سينتظرون في الأيام المقبلة الردود والمواقف على ثنائية «الدستور والمقاومة». إذ يبدو أن الثنائية الجديدة مرشحة للحلول مكان ثلاثية «جيش وشعب ومقاومة» التي فقدت صلاحيتها لاستحالة تحقيق تأييد أكثرية وازنة من الشعب اللبناني لها، ولصعوبة إقناع اللبنانيين بأن الجيش الذي تطوع في صفوفه أبناؤهم المنتمون الى كلّ التنوع المناطقي والسياسي والطائفي يمكن أن يكون جزءاً من معادلة تجمعه بمكوّن مذهبي له امتداداته الإقليمية وتحالفاته ومصادر تمويله ومرجعيته العقائدية التي تعلو على الدستور والقوانين اللبنانية. وبهذا تقدّم الثنائية الجديدة للسلاح الذي لم يحظَ بتأييد الشعب ملاذاً جديداً الى جانب الدستور الذي يجهد اللبنانيون لتطبيقه، مما يضعهم أمام إشكالية مقفلة هي «رفض المقاومة يعني رفض الدستور».
ردود الفعل التلقائية على حادثة الكحالة التي فرضها إنقلاب شاحنة الخضار المجهولة الحمولة والإنتشارالمسلّح حولها ليست الفصل الأهم في «المأساة التي تعيشها مسيرة الدولة في لبنان»، فالمواطنون اللبنانيون أنّ كانوا سواء في الكحالة أو في أي منطقة لبنانية يدركون أن عشرات بل مئات الشاحنات التي لم تنقلب تقوم بنقل الأسلحة والمسلحين على طرقاتهم وتستبيح سيادتهم وقوانينهم وحرياتهم وترغمهم على الدخول في رهانات شديدة المخاطر ومجهولة النتائج. وقد يكون الموقف الأكثر حراجة بعد حادثة الكحالة وطريقة التعامل الرسمي مع الحدث برمّته هو في تكريس التآلف بين المواطنين وانتقال شاحنات السلاح على الطرقات بما يسقط الإعتبار عن أي مفهوم للسلطة والقانون وأي مبرر لوجودهما.
فهل أسقطت حادثة الكحالة آخر أوراق التوت التي كانت تخبئ عورات ما اصطلح على تسميته مجازاً بالدولة اللبنانية أو ما تبقى منها؟ وهل يصبح مرور شاحنات السلاح والمسلحين مشهداً يومياً دونما حاجة للتمويه باستخدام شاحنات الخضار؟ وهل يؤشر ذلك الى تقديم مشهد لبناني، لدواعٍ إقليمية، عنوانه تحييد الأجهزة الأمنية وسقوط كل ما يمت الى الدولة ؟ وهل يمكن اعتبار مقاطع الفيديو التي عممت على وسائل التواصل الإجتماعي لمدرعات وناقلات جند وأسلحة تابعة لحزب الله مقدّمة للمشهد المرتقب وإعلان لسقوط حر لجمهورية الطائف؟
لا تبدو محاولات المسؤولين على قدر المخاطر المرتقبة وبما يكفي لطمأنة اللبنانيين ….