على مدى سنوات الأزمة، جرى الترويج لسردية مفادها أن مجموع المبالغ المجمّعة في بند «الاحتياط الإلزامي بالعملة الأجنبية» تعود ملكيتها حتماً إلى المودعين. بدا للعموم كأنه سيتم توزيع هذه الأموال على المودعين من ضمن آليات مستقبلية لردّ الودائع، ومن بينها ما هو مقترح في قانون الكابيتال كونترول. لكنّ الواقع، أن هذه الاحتياطات، وإن كان مصدرها الأساسي أموالاً أخذتها المصارف من الزبائن وأودعتها لدى مصرف لبنان، فإن أولوياتها نقدية واقتصادية وليست مصرفية. الكل أصبح أسير هذه السردية. لكن لا يبدو أن في الحكومة ومجلس النواب من يدرك ذلك، وأهل السلطة لو كانوا على دراية بهذا الأمر، لما أصبح النقاش خارج إطار الحلّ الشامل، أي الاعتراف بالخسائر وتوزيعها وإعادة هيكلة القطاع المالي.
تكشف مصادر مطّلعة، إن حجم السيولة الفورية القابلة للاستعمال لدى مصرف لبنان من التوظيفات الإلزامية، والمعروفة باسم الاحتياطات الإلزامية بالعملة الأجنبية، بالكاد يساوي 7 مليارات دولار، إذ إنه لدى مصرف لبنان سيولة فورية بالعملة الأجنبية بقيمة 8.5 مليارات دولار مقابل التزامات على مصرف لبنان، من ضمنها حقوق السحب الخاصة وودائع بالعملة الأجنبية للخزينة اللبنانية واستحقاقات أخرى بقيمة تفوق مليار دولار، علماً أن هذه الالتزامات لا تتضمن الأموال التي يفترض بمصرف لبنان رصدها لتسديد الودائع وفق التعميم 158، إذ إنه في نيسان 2023 بلغت قيمة الودائع المؤهّلة للاستفادة من هذا التعميم نحو 10.5 مليارات دولار نصفها يُدفع بالدولار النقدي.
ad
في الواقع، دل التعميم 158 وآلية رصد الأموال لسداد الودائع بشكل على أن أموال الاحتياطات ليست مخصّصة بالكامل لتسديد الودائع. فالاعتراف بحقوق المودعين، هو مسألة منفصلة تماماً عن تمويل هذه الحقوق. وهذا الأمر يأتي خلافاً لما جرى إدراجه في مشروع قانون الكابيتال كونترول الذي أحيل الى الهيئة العامة في مجلس النواب، لجهة تحديد آليات تسديد الودائع وسقوف التسديد. وبدا أن ضمّ المسألتين في المشروع كأولوية تتفوّق على أولوية الاقتصاد، خطوة رفضها صندوق النقد الدولي مرّات عدّة، وأشار في رسائل رسمية إلى ثلاث ملاحظات أساسية: أن تكون القيود على الدولارات «الفريش» ولا تكون محصورة بالدولارات المحجوزة أصلاً لدى المصارف، وأن تكون آلية تسديد أموال المودعين ضمن إطار الحلّ الشامل وليس ضمن هذا القانون، وأن يتم تحديد استعمال أموال الدولة.
خلفية ملاحظات الصندوق، هي الرؤية الأشمل لعملية إدارة السيولة بالعملة الأجنبية، إذ لا يمكن إختزال هذه السيولة بمخزون مصرف لبنان فقط وربطها بتسديد الودائع، بينما هناك إدارة للتدفقات أيضاً. وبحسب المدير العام للمركز الاستشاري للدراسات والتوثيق عبد الحليم فضل الله، فإن قانون النقد والتسليف يلزم مصرف لبنان ان يكون «ليس مسؤولاً فقط عن السياسة النقدية، بل لديه وظائف بموجب المادة 70 من قانون النقد والتسليف تشمل الاستقرار النقدي والاقتصادي وسلامة النظام المصرفي».
لذا، يبدو أن النقاش حول وجهة استعمال هذه السيولة، بما فيها ردّ الودائع، ينطوي على أولويات. أيهما يكون أولاً؟
الإجابة تبدأ بالإشارة إلى أن مجمل مخزون السيولة لدى مصرف لبنان لا يغطّي أكثر من 7.5% من مجمل قيمة الودائع البالغة 93 مليار دولار، وبالتالي فإن ردّ الودائع حتى استنفاد المخزون هو ليس خياراً منطقيا، بل عملٌ في غاية التهوّر والخطورة لأنه يستنفد المخزون بكامله، ثم يسخّر التدفقات أيضاً كأولوية للغاية نفسها. ولبنان يستقبل سنوياً تحويلات كبيرة من المغتربين تتجاوز 6 مليارات دولار، فضلاً عن تحويلات للسوريين النازحين بقيمة تفوق المليار دولار، أضافة الى تحويلات لمنظمات ومؤسسات سياسية او مدنية او خلافه، تقدر بنحو 3 مليارات دولار، أي ما يصل مجموعه إلى 10 مليارات دولار.
وبالتالي فإن الاكتفاء بإدارة المخزون لا يكفي لإحكام السيطرة على السوق، بل على العكس فإنه في ظل أزمة لبنان، وشبه استحالة تجدّد هذا المخزون، قد تترك إدارة المخزون ضمن هذه الأولويات انطباعاً شديد السلبية ينعكس في سعر الصرف. وإذا تُركت تدفقات العملة الأجنبية عرضة للتنافس التجاري عليها خارج أي تدخّل من المصرف المركزي، فإن ذلك يزيد الوضع السلبي سوءاً.
من جهة ثانية، فالأعباء التي تضغط على الأولويات، تظهر وجود حاجات يومية للخزينة بالعملة الأجنبية بعضها معروف وواضح، وبعضها الآخر هو عبارة عن بدع خلقها مصرف لبنان بالاتفاق مع قوى السلطة، مثل تسديد الرواتب للعاملين في القطاع العام بالدولار النقدي. لذا، تقول مصادر في المجلس المركزي لمصرف لبنان، إن التعامل مع سيولة مصرف لبنان بتصنيفها أموالاً للمودعين، هو أمر في غاية الخطورة وخارج إطار أي حلّ شامل للأزمة. هذا الحلّ يتطلب كابيتال كونترول على التدفقات أيضاً، إلى جانب خطوات تشريعية عديدة طلبها نواب الحاكم الأربعة في سياق مفاوضات انتقال الحاكمية إلى النائب الأول وسيم منصوري. فعلى سبيل المثال، لبنان استورد بقيمة 19 مليار دولار في السنة الماضية، وهذا المبلغ هو بمثابة نزفٍ من المخزون والتدفقات في الوقت نفسه. يمثل هذا الرقم ضغطاً كبيراً على الاقتصاد، إذ إنه يعادل 90% من الناتج المحلي الإجمالي، ويساوي 29 ضعف الكتلة النقدية المتداولة التي تبلغ اليوم نحو 60 تريليون ليرة (660 مليون دولار بسعر السوق)، وإذا احتُسب هذا الرقم شهرياً، فإنه يساوي 2.5 ضعف الكتلة النقدية. بتعبير أوضح، «يجب أن تكون الليرة أقوى خلافاً لما هي عليه الآن». يستند ذلك إلى حساب مفاعيل الكتلة في السوق التي يجب أن تتجاوز 2.5 أضعاف معدل الاستيراد الشهري.
المقصود بهذه الحسابات أن استعمال الاحتياطات (المخزون) أو السيولة الفورية بالعملة الأجنبية (التدفقات) لا يرتبط حصراً بالودائع، وهذا الأمر لم تفهمه السلطة ولا من يعارضها. اذ كان رياض سلامة ينوب عنهم في القيام بكل هذه الأعمال، لذا عندما فقد مصرف لبنان أدوات الوصول إلى السوق، أي المصارف، وصار الاقتصاد نقدياً بنسبة كبيرة، وافق على أن ينشئ منصّة «صيرفة» التي كانت وظيفتها مختلفة كلياً عما هي عليه الآن. يقول أحد اعضاء المجلس المركزي: «اتفقنا مع الحاكم السابق على توسيع حلقة دوران الدولارات المتدفّقة من الخارج عبر المنصّة، ليصبح مصرف لبنان قادراً على السيطرة على السوق من خلال إدارة المخزون والتدفقات في الوقت نفسه. لكن سلامة نقض الاتفاق، ما دفع نائب الحاكم سليم شاهين إلى رفع دراسة إلى المجلس المركزي عن سوء نموذج صيرفة».
من جانبه، يشير فضل الله إلى أن السيولة بالدولار المسماة احتياطات، «هي جسر للعبور من الأزمة إلى الحلّ. هي لا تعيد الحقوق وحدَها، بل هي مظلّة أمان لهذه الحقوق». ويضيف عضو المجلس المركزي بأن «الهدف من إدارة السيولة، هو توسيع حلقة الدوران في الاقتصاد»، أي إن مفعول كل دولار واحد يجب أن يفوق 4 الى 5 دولارات وصولاً إلى سبعة، وهذا الأمر «يخلق حركة اقتصادية تظهر نتائجها لاحقاً في القطاع المصرفي. لكنّ إعادة إطلاق القطاع المصرفي ليكون قادراً على استقطاب هذه الحركة تتطلب رؤية شاملة للأزمة تحدّد أيضاً السياسات الاقتصادية التي يجب أن ننفق في إطارها هذه السيولة وغيرها مما يمكن أن يأتي».