لا تزال تطفو على السطح تداعيات ما حصل في بلدة الكحالة وقبلها ما سُجّل من أحداث أمنيّة في غير منطقة من لبنان، مع ما يرافقها من تصعيد في المواقف الناريّة وتخوين وإطلاق اتّهامات وربّما تهديدات، مع عمليّة تجييش وتعبئة للرأي العام، تؤشّر في مجملها إلى حالة إرباك وانعدام وزن تسود صفوف معظم الجهّات المعنيّة إذا لم يكن كلّها، مع أزمة أفق مقفل، واحتمال الجنوح والإنزلاق إلى الفتنة أو إلى الانفجار الكبير.
صحيح أنّ حادثة الكحالة حصلت بالصدفة وليس مخطّطاً لها. وصحيح أيضاً أنّ مجمل الحوادث الأخرى أتت في سياق منفصل ولا رابط بينها. لكن أهميّتها كما خطورتها، تكمن في أنّها تشكّل أوّل امتحان لإمكانيّة إنتقال المواجهة السياسيّة المحتدمة إلى التعامل بالذخيرة الحيّة.
الملفت، أنّ الجميع يحذّرون من الأسوأ ومن حرب أهليّة…ويرفضونها، إلاّ أنّ أحداً لا يقدّم حلاً ولا ضوءاً أو شبه مسار، بل يزيد على الاستعصاءات والانسدادات.
عمليّاً، لقد بتنا كمواطنين في خضّم هذا الأسوأ وفي قعر قعره إقتصاديّاً، ماليّاً، إجتماعيّاً، حياتيّاً، أخلاقيّاً، سياسيّاً …وأمنيّاً. ناهيكم عن تحوّلات مقلقة في ذهنيّات الجماعات اللبنانيّة ووجدانها، بحيث باتت مجتمعة تستحضر لدى قسم غير قليل من نسيجها لغة ومصطلحات الحرب، وتعمل عن قصد أو بدونه على إيقاظها في السرّ وفي العلن، بحيث قد يصحّ القول أنّنا جميعنا نعيش حرباً أهليّة متقطّعة مقنّعة أو مموّهة، لكن حقيقيّة بشكل أو بآخر.
الأخطاء تتراكم من كلّ حدب وصوب، وحادثة الكحالة كشفت المستور لا بل عرّته. من الإرتباك والاحراج الكبير الذي أصاب حلفاء “حزب الله” من خلال التصرّفات والتصريحات المتناقضة، وصولاً إلى اعتماد الحزب مثلاً وبغرابة، خطاباً يساوي بين الأهالي والميليشيات، في منطقة فاجأته بمواجهته بحالة من الحدّية والعدائيّة حتّى، وهو كان إلى الأمس القريب مطمئنّ لها من دون تعميم، كبيئة حاضنة من خارج مكوّنه المذهبيّ.
كما عمد إلى إدارة حدث داخليّ على طريقة الحرب النفسيّة التي يقودها مع العدو الاسرائيليّ، في وقت أهل الكحالة كما غيرهم في كلّ بقاع لبنان هم شركاء له في الوطن والمواطنيّة مهما كانت الاختلافات عظيمة.
لن أسأل عن الجدوى في التخوين واتّهام الإعلام والانجرار وراء عقيدة لطالما انتقدها، كان رسّخها الرئيس الأميركي جورج بوش الإبن عقب أحداث 11 أيلول: “من ليس معنا فهو ضدّنا، لا بل عدوّنا”. برأيي، كان على الحزب ببساطة أن يسلك منهجاً وأسلوباً مختلفاً بالكامل، وأن يعمل على تهدئة النفوس وإعطاء التطمينات بالتي هي، وأن يتعامل مع الاحتقان كما مع المتغيّرات في الوجدان الشعبي العام بمسؤوليّة وحرفيّة، بدل تقديم مادة دسمة ووقوداً لدعاة التقسيم.
بالمقابل، كم كان ضاراً ذلك التجييش الطائفيّ، والأخطر جعل حادثة الكحالة قضيّة مسيحيّة، ومحاولة ربطها بما جرى من أحداث في الأعوام 58 و 69 و 75، على الرغم من مواقف أهل الكحالة بالذات وحكمة المراجع الكنسيّة وخطابها. فالتاريخ “يثمل الشعوب ويثير لديها ردود أفعال مبالغ فيها، ويبقي على جراحها القديمة حيّة ويعذّبها في استراحتها ويقودها إلى جنون العظمة أو إلى جنون الاضطهاد” كما يقول بول فاليري.
وأيضاً، كان مستهجناً الشروع بإطلاق شعارات طنّانة رنّانة في السيادة ولو محقّة، تبقى غير قابلة للتنفيذ بحكم الظرف الداخليّ والإقليميّ والدوليّ، الأمر الذي سيزيد من الشعور بالغبن واليأس، وينعكس تصاعداً في التباعد والانكفاء والشحن والتعبئة.
وهل لي أن أسأل من ناحية عن تلك المواقف المتسرّعة تجاه جيشنا الوطنيّ والانتقادات الواسعة في حقّه رغم الملاحظات والأخطاء في الشكل والمضمون التي وقع فيها، ومن ناحية ثانية عن إعلاء الصوت صوناً للدولة وسلطتها مع المجاهرة في الوقت عينه بإمكانيّة أخذ الحقّ واسترداده باليد إذا ما تقاعست؟!
ختاماً، الجميع وقع في قصر النظر أمام حادثة الكحالة، في وقت ينهشنا الفراغ القاتل في مؤسّساتنا الدستوريّة، المقدّر لها إذا ما أكملنا على نفس الأساليب والطرق المتّبعة، أن نصل إلى انهيارها بالكامل. وعندها ستعوّض إمّا بمؤسّسات رديفة محلّية من خارج الدولة وعلى هامشها بحكم الأمر الواقع، أو بسلطة وصاية من خارج الحدود اللبنانيّة، أو لا سمح الله إلى إنزلاق نحو الفتن وإلى تهديد السلم الاهليّ الهشّ أصلاً، وكلّها في مجملها خيارات سيّئة وسوداوية.
إلى الذين يحذّرون من المجهول ومن الأسوأ ومن حرب أهليّة، عمليّاً لقد بتنا كمواطنين في خضّم هذا المجهول وهذا الأسوأ وفي قعر قعره، وجميعنا نعيش حرباً أهليّة متقطّعة مقنّعة أو مموّهة، لكن حقيقيّة بشكل أو بآخر…فهل من يتّعظ؟!
*ناشط سياسيّ ومرشّح سابق للندوة البرلمانيّة عن بلاد جبيل