لأن الوفاء أقل ما يمكن أن نقدمه لشهدائنا، ولأن كل واحد منهم قصة بطولة وملحمة عنفوان، يستذكر موقع “القوات اللبنانية” حكايات رفاق ستبقى خالدة في وجدان القضية، كتحية وفاء لمن توج نضاله بالاستشهاد لنبقى ويبقى الوطن.
من رحم الانتفاضة على ويلات الزمن ومصائبه، ولد نعمان كرم في بلدة رابضة على كتف البحر، تسهر على شاطئ منطقة الزّهراني، تراقب الوجود وتتقصّى أسراره. إنّها بلدة “العدّوسيّة”. البلدة التي يعيش أهلها بسلام مع جوارهم منذ آلاف السنين، على الرغم من الخضّات والاعتداءات صمدت وقرّرت المواجهة للبقاء. وهكذا نعمان. قرّر المواجهة ليبقى. وبقي برغم الرّحيل في هذا الوجود الذي لم يسمح له بأن يستحيل لاوجوداً فارغاً من معناه.
لاوعيه وأحاسيسه وانفعالاته اللاطوعية تبرعمت ونمت في عائلة مفطورة على الذود العنيد، إخوته وأخواته جميعهم انخرطوا في المقاومة اللبنانيّة فكرياً أو ميدانياً، لكنه كان الأكثر اندفاعاً واستبسالاً في الدفاع عن قضية آمن بها حتى أخلى ذاته للحفاظ على استمرارها.
كان يافعاً جداً عندما حمل بارودته وقرّر الرّحيل إلى الهناك. نعم إن استشهاد نعمان كان بفعل قرار اتخذه هو نفسه بالرحيل ذوداً عن رفاقه، يوم قرّر في أحد الشعانين أن يترك أهله ويلتحق بهم. عبر البساتين من بلدته العدّوسيّة، وتعطّراً بعبق رائحة الموز والليمون وأشجار السرو الوارفة التي تحرس شاطئ “براك التلّ” الأحبّ إلى قلبه. عبر نعمان كذلك الموج الغاضب الذي يقصف الصخر ويقضم نتوءاته حتى يحفر تواقيعه عليها عبر الزمن، وعَبَرَ هاتيك البساتين وفي نيته أن يلاقي رفاقه في منطقة جزين ليدافع معهم عن الأرض التي أحبها للغاية.
هذا المقاوم الكِيانيّ غير المساوم عن لبنان القضية والرسالة، لم يأبه للخطر الذي قد يناله غدراً. فأشجار الليمون التي أرخت ظلال القمر على أوراقها وشماً أصفر من وجوم الغادرين الذين ربضوا له على مفرق بلدة مغدوشة ودرب السيم في 31 آذار من العام 1985 ورموه بوابل من الرصاص الذي أصابه، ولكن إرادة المقاومة المحفورة في قلبه لم تأذن لشبح الموت بأن يسلبه. فنقله أحد الفلاحين إلى مستشفى متواضع في مدينة صيدا، حيث تحرّى عن وجوده مَن كَمَن له وتبعوه إلى المستشفى وقاموا بتصفيته هناك؛ ورحل “الملك” عند يسوع الملك، وصار نعمان كرم رمز المقاومة والاستشهاد غدراً نتيجَة مَن وشى به وأعلمَ أعداء لبنان عن نيّته ومَسَارِه فتمكّنوا منه.
نعمان كرم عبَرَ إلى حيث أحب ولم يرحَل. فهو ما زال حتى هذه الساعة محفوراً في أذهان الأجيال التي أنبتتها أرض العدوسيّة ضيعته الحبيبة. ما زالت دعساته مطبوعة على شاطئ “براك التّلّ” حيث كان يشق الموج باحثاً عن المجهول. الملك باقٍ لأنّ فكره بقي وترسّخ أكثر في فكر الأجيال التي أكملت مسيرته الكيانيّة في منطقة رفضت وجوده ووجود أمثاله الذين يؤمنون بالعيش معًا في واحةٍ من الحرّيّة المسؤولة التي لا تستطيع أن تعيش من دون ممارسة حقّ اختلافها على قاعدة عدم الخلاف، بل العيش بسلام معًا ليكون لبنان ١٠٤٥٢ لكلّ المؤمنين بكينونته هذه التي تمتدّ امتدادًا سرمديًّا، من الأزل إلى الأبد.
انضم نعمان كرم بحماس واندفاع خارقين إلى قافلة من المقاومين الرفاق الذين حملوا لواء القضية اللبنانية عبر تاريخ طويل من العرق والتعب والدماء؛ وطالما هذه القضيّة بقيت حيّة سيبقى لبنان وشعبه. قضيّة بزغت مع اللبنانيين الأوائل وأكملها نعمان الملك باستشهاده، فراحت تتشكل هاربة من شرق ظالم وقاهر، قتله غدراً ليبقى هو كما هو. لكنّ تمرّد نعمان والرّوح التي زرعها في كِيَانات نبتت بعده في العدّوسيّة والزّهراني على الرغم من الألم والوجع والاضطهاد، حافظت على الإرادة في السعي إلى الإقامة في ربوع الحرية ونجحت بتطويع القدر الظالم الذي غدر بنعمان.
نعمان الذي انتفض بكل ما أوتي من قوة وعناد وتصميم في ذلك الشعانين من العام 1985 ضدّ آفات سرقة الوطن من أحضان أبنائه وتحويله إلى وطن بديل، سقط ليعيد لنا العدّوسية ولنعود إليها وإلى شاطئ “براك التلّ” الذي انصهر في كِيَانِه مرفوع الرّأس. وعدنا بعد استشهاده نواجه روّاد المصلحيّة السياسية والمجتمعية؛ أولئك الذين يحاولون اليوم أن يرهنوا العدّوسيّة ولبنان ثمناً لبقائهم. نواجههم لإخراج لبنان من حكم التافهين وحكم غير المؤهلين وحكم الفاسدين والمفسدين، لنبني لبنان الغد الذي يليق بملك قرّر الرّحيل لنبقى نحن.
هذا اللبنان الذي استشهد من أجله رجل مقاومة من الدرجة الأولى، وطني بامتياز، مندفع، ورؤيوي، ومتجرد، ومتفانٍ، وشجاع، ومقدام، الشهيد نعمان كرم، لن يكون قدره إلا ديمومة الحياة. ولتبقى لنا الحرّيّة سنبقى أمينين على إرث نعمان كرم “الملك” ورفاقه الشهداء طالما حيينا. وسنعمل على تسليم هذه الأمانة التي سلّمنا إيّاها نعمان إلى أولادنا وأحفادنا من بعدنا لتبقى عدّوسيّة نعمان لؤلؤة شاطئ “براك التلّ”، وليبقى لبنان الأرض والوجود والجوهر والكِيَان إلى دهر الدّاهرين.