خلال شهر آب الجاري، أوقف الجيش اللبناني سبعة آلاف سوري أثناء محاولتهم التسلل إلى الأراضي اللبنانية عبر الحدود الشمالية. الرقم الضخم، في شهر واحد، يقابله دخول مئات، وحتى الآلاف، يومياً عبر الشريط الحدودي الشمالي، حيث توجد مناطق شاسعة مفتوحة بين البلدين تصعب مراقبتها، وفي ظل وجود شبكة من مافيا المهرّبين على جانبَي الحدود، على عكس السلسلة الشرقيّة حيث ينتشر الجيش بكثافة مزوّداً بكاميرات مراقبة. اللافت أن معظم المتسلّلين هم من فئة الشباب، على عكس ما كانت عليه الحال في بداية الحرب السورية عندما كانت غالبية النازحين من العائلات. من أوقفهم الجيش زعموا أنهم قدموا إلى لبنان هرباً من الأوضاع الاقتصادية أو بنيّة الهرب بحراً بطرقٍ غير شرعيّة إلى أوروبا قبل بدء فصل الشتاء. فيما لم تخف مصادر متابعة مخاوفها من أن يكون بين المتسلّلين مكلّفون بعمليات رصد أو ربما بمهمات أمنية. وتضاف إلى هَمّ الحدود البرية، الحدود البحرية الممتدة من شاطئ العريضة حتى البترون وجبيل، حيث يوقف الجيش يومياً قوارب مُعدة للهجرة على الشاطئ الشمالي، خصوصاً في عكار والمنية
بعد عبورها الحدود، تنتظر سارية مع أطفالها الثلاثة يوماً كاملاً في معبر شهيرة، في البقيعة العكارية، بانتظار اكتمال «الدفعة»، قبل الانطلاق برفقة سماسرة ومهرّبين (غالبيتهم من أبناء وادي خالد والمشاتي). تجتاز «القافلة» التي تضم رجالاً ونساء وأطفالاً من كل الأعمار بلدة البقيعة، وتسلك سيراً على الأقدام طرقاً جبلية عبر بلدة شدرا من أجل تفادي المرور عبر حاجز القوة المشتركة، قبل أن ينتهي بها المطاف في قرية القبور البيض، حيث تنتظر «فانات» تقلّ الداخلين الجدد إلى وجهتهم داخل لبنان.
المشهد على الحدود الشمالية مع سوريا يعود بالذاكرة إلى عام 2011، وبدء تدفق أمواج من النازحين السوريين على لبنان. ما لا يقل عن 1000 سوري يعبرون يومياً بطرق غير مشروعة إلى عكار عبر الشريط الحدودي الممتد من قرى وبلدات وادي خالد المشاتي وشدرا في منطقة الدريب الأعلى، مروراً ببلدات العوينات ومنجز ورماح وخربة الرمان وشيخلار والدبابية في الدريب الأوسط، وصولاً إلى بلدات شاطئ العريضة عند الشاطئ اللبناني. فيما تؤكد مصادر مطّلعة أن أعداداً مماثلة من السوريين تعبر يومياً الحدود الشرقية عبر معابر غير شرعية تسيطر عليها عشائر بقاعية.
ومنذ عام 2011، تعيش المنطقة الحدودية على وقع ما يجري في الداخل السوري. في بداية الحرب، تعرّضت لقصف متكرر من الجيش السوري استهدف قرى وبلدات استُخدمت ممراً لتسلل المجموعات المسلحة والتكفيرية إلى الأراضي السورية، وشهدت سقوط عشرات القتلى والجرحى بالألغام التي زرعها الجيش السوري لمنع التسلل. لاحقاً، مع استقرار الأوضاع في البلدات السورية المحاذية للقرى الشمالية، خرجت الأمور عن السيطرة كلياً على المقلب اللبناني. وبعدما كان تهريب السلع، قبل الأزمة، مصدر عيش سكان معظم هذه المناطق، امتهن كثيرون أخيراً تجارة البشر في عمليات تجري في وضح النهار بتنسيق بين المهرّبين على جانبَي الحدود، وعبر معابر: الكنيسة، شهيرة – خط البترول، وادي الواويات، قرحة، العويشات، تل الفرح… اللافت أن المهرّبين وسّعوا نشاطهم ليشمل قرى لم تكن يوماً على خط التهريب، كمنجز والعوينات ورماح والقبور البيض، ما يثير قلقاً كبيراً بين سكانها الذين يرون يومياً المئات يدخلون أراضيهم، ويخوض بعضهم جولات كرّ وفرّ مع الداخلين بطرق غير شرعية، فيعمدون إلى توقيف بعضهم وتجميعهم في باحة الكنيسة في انتظار وصول الجيش اللبناني الذي يعيدهم إلى الحدود. أحد أبناء العوينات يقول لـ«الأخبار»: «ما يجري مريب ومخيف والأعداد التي تدخل هائلة ومقلقة للغاية»، لافتاً إلى «تعاون بعض أهالي هذه البلدات مع المهرّبين تحت إغراء المال مقابل السماح بعبور النازحين في المنطقة»، ما يؤدي إلى «فوضى عارمة واستباحة المسلحين والمهرّبين للمنطقة، فضلاً عن اشتباكات وتصفية حسابات». الأمر نفسه ينطبق على بلدة شدرا الأقرب إلى بلدات وادي خالد وجارة المشاتي، حيث أوقف أخيراً تسعة من أبناء البلدة بتهمة العمل مع السماسرة. فيما إجراءات القوى الأمنية تقتصر على إعادة المخالفين إلى الحدود، ليقعوا مجدداً في قبضة السماسرة الذين يعمدون إلى إعادة إدخالهم عبر معابر ترابية أخرى.
م. ع.، أحد سماسرة التهريب في وادي خالد، يروي لـ«الأخبار» كيف يجري التهريب عبر معبرَي شهيرة وعبيدان اللذين يخضعان لسلطة الفرقة الرابعة في الجيش السوري الموكلة بضبط الحدود، مؤكداً أن المتسلّلين يعبرون تحت أعين حرس الحدود، ويستقبلهم في الجانب اللبناني سماسرة يستضيفونهم في منازل محددة حيث يعمدون إلى توزيعهم على «فانات» بعد «تعريبهم»، بين من يملك هوية، ومن يحمل «دفتر أمم» (الصادر عن المفوّضية العليا لشؤون اللاجئين).
ويقسم أحد مخاتير وادي خالد المتسلّلين إلى لبنان إلى قسمين، منهم من يدخل للبقاء هنا، ولوحظ أن كثيراً منهم يتوجهون مباشرة إلى بيروت والضاحية الجنوبية مقابل مبالغ مالية تُراوِح بين 200 و350 دولاراً، والقسم الآخر من الراغبين في ركوب قوارب الهجرة غير الشرعية، ويدخلون بعد تنسيق مسبق مع سماسرة ومهرّبين من بلدة ببنين وشاطئ العبدة لحجز المراكب التي ستقلّهم في البحر، ويبقون في بلدات الساحل اللبناني أياماً إلى حين المغادرة إلى مراكب تنتظرهم في عرض البحر بعد سداد المبلغ المتفق عليه والذي يراوح بين 4 آلاف و6 آلاف دولار.
ويعزو أحد أبناء ببنين ممّن يعملون في الهجرة غير الشرعية ارتفاع أعداد المتسلّلين إلى أن الظروف المناخية في شهرَي أيلول وتشرين الأول تكون في العادة مناسبة للإبحار مشيراً إلى أن قلة قليلة من الصيادين في المنطقة لا تزال تعتاش من مهنة صيد الأسماك، بعدما جهّز معظم هؤلاء مراكبهم لنقل المهاجرين الذين يدفعون مبالغ طائلة. ويوضح أن معظم الراغبين بالهجرة سوريون إضافة إلى بعض الفلسطينيين وعدد أقل من اللبنانيين، و«نفضّل التعامل مع غير اللبنانيين لأن الأمر أريح». ويتابع: «يتم إدخال السوريين عبر سماسرة نتعامل معهم من منطقة وادي خالد، ويتم تجميعهم في منازل قريبة من البحر قبل نحو 48 ساعة من الرحلة، وعندما يحين وقت المغادرة تُسدد التكاليف التي تبلغ 6 آلاف دولار للشخص، مع تخفيض الرقم بالنسبة إلى العائلة التي تضم أطفالاً صغاراً، ويتم تقاسم الأرباح بين صاحب المنزل وقبطان المركب، فيما تذهب الحصة الكبرى إلى صاحب المركب والسمسار».
مخاوف أمنية
ورغم ربط كثيرين بين ارتفاع أعداد العابرين وتصاعد الحصار الاقتصادي على سوريا وتفاقم الظروف المعيشية من جهة، وبين الرغبة في المغادرة عبر البحر من جهة أخرى، تعرب فاعليات في المنطقة عن القلق من موجة الهجرة المستجدّة، متسائلة عمّا إذا كان كل العابرين يقصدون المغادرة عبر البحر أم أن بينهم من يبقى في لبنان لأسباب مشبوهة؟
ويلفت أحد فاعليات وادي خالد إلى أن معظم الوافدين ليسوا من المناطق الحدودية أو ممن اعتادوا العبور إلى لبنان كل مدة بهدف إجراء بصمة العين أو للحصول على تقديمات الأمم المتحدة، بل هم في غالبيتهم وجوه جديدة، ومعظمهم من إدلب ودير الزور والسويداء ودرعا، عازياً ذلك إما إلى مخاوف من مشكل أمني يتم التحضير له في سوريا، أو هرباً من الغلاء والأزمة الاقتصادية الخانقة. غير أنه يشير إلى أن «أخطر المتسلّلين هم الآتون من الريف الشمالي في إدلب ومن دير الزور والقامشلي»، إذ إن «معظم هؤلاء مطلوبون يتسللون عبر الحدود ويجولون في مختلف المناطق من دون أي رقابة، ولا يُستبعد أن يكون بعضهم مكلّفاً بالقيام بعمليات رصد أو ربما حتى عمليات أمنية».