لسنوات طويلة، كانت الأحداث التي شهدها مخيم عين الحلوة تأخذ طابعاً أمنياً – جنائياً بسبب الفوضى التي كانت تتسبّب بالإشكالات والاشتباكات. ولم يكن أحد من أبناء المخيم، أو خارجه، ليصدّق بأن ما يجري يتصل بأصل القضية. ومع تعاظم قدرات المقاومة في لبنان ضد قوات الاحتلال، وتطوّر عمل المقاومة في فلسطين نفسها، صار بإمكان كثيرين، من أبناء المخيمات أولاً، ومن خارجها، التحدّث عن سلاح فلتان ينبغي ضبطه. لكن ما يشهده المخيم، منذ نهاية تموز الماضي، يتجاوز هذا الإطار، رغم عناصر التشابه مع الأحداث السابقة، ويبدو أن هناك من يستغلّ ما يجري لتحقيق غايات أخرى ذات بعد سياسي متّصل بأصل القضية الفلسطينية. وإن كان هذا البعد السياسي المستجدّ، لا ينفي وجود مشكلة كبيرة داخل المخيم، وفي بقية المخيمات الفلسطينية، بعدما انضمّ إلى سكانها عدد وافر من الفلسطينيين النازحين من سوريا، ولبنانيون من المطلوبين للسلطات القضائية، وعناصر في مجموعات تكفيرية قاتلوا في لبنان وسوريا والعراق.
طوال الوقت، تعاملت الدولة اللبنانية مع المخيم كبؤرة لعمل أمني، أو تجمّع لخارجين عن القانون، وبقي «عزل» المخيم فكرة راسخة في ذهن كل من تعاطى الشأن العام. في المقابل، فشل سكان المخيم في تنظيم عيشهم بطريقة أفضل، ما جعلهم هدفاً دائماً لعمليات ابتزاز، أو ضحايا لهذه المواجهات.
صحيح أن في المخيمات غالبية لا بأس بها لا تريد أن تبقى هذه «المساحة» موصومة بالإرهاب والتخلّف وتجاوز القوانين، وترفض تحوّل المخيمات إلى ملاذ لكل من لديه مشكلة مع السلطات اللبنانية، ولا ترغب باستيلاء «التكفيريين» على المخيمات. لكن هذا لا يكفي لفهم خلفية القتال الجاري في عين الحلوة، والذي قد يمتد إلى مخيمات أخرى، كون المشاريع المقترحة لمعالجة الوضع الفلسطيني في لبنان هذه الفترة، من ضمن المشروع الأكبر الذي يرفض أن يلعب الفلسطينون في الشتات دوراً في المقاومة لتحرير بلدهم.
نشهد اليوم تحالفاً لا يحتاج إلى تدقيق كثير لمعرفة رأسه الفعلي. نجد في الحكومة اللبنانية جهة رسمية تعيد علينا معزوفة أن منظمة التحرير هي المرجعية الرسمية والشرعية للفلسطينيين، وأن الأوان آن لوضع حد للوضع القائم حالياً في المخيمات. وبعد أن تكرّر كلاماً ممجوجاً عن أهمية نيل هؤلاء حقوقهم المدنية، تذهب مباشرة إلى بيت القصيد، بالحديث عن مهمة «ضبط السلاح»، وعن أن ذلك «سيتم حكماً، ولو بالقوة إن لزم الأمر»… وصولاً إلى حديث عن تشكيل قوة فلسطينية تنسّق مع الجيش اللبناني في مهمة ضبط هذا السلاح.
وهنا يبرز الجيش، ليس بوصفه مؤسسة عسكرية ضامنة لأمن كل الأراضي اللبنانية ومن بينها المخيمات، بل كطرف يقف إلى جانب فلسطيني ضد آخر، والجميع يعرف أن الجيش يساعد مقاتلي فتح في معاركهم الأخيرة. أما الشريك الفلسطيني الفعلي لهذه الجهات اللبنانية، فهو سلطة رام الله ممثّلة بالسفارة في بيروت أو بضباط المخابرات العامة الذين يقلّدون ضباط السفارات في بناء حيثيات مستقلّة.
هذا التحالف لا يمكن أن يبقى من دون مساءلة، ليس لعدم تكرار الجنون الدموي في نهر البارد فقط، بل لكون الهدف من ذلك كله إدخال تعديلات على المشهد الفلسطيني في لبنان، من ضمن المعركة القائمة في المنطقة ككل، إذ تسعى سلطة رام الله إلى تنفيذ ما يريده العدو بمحاصرة قوى المقاومة الفلسطينية داخل فلسطين وخارجها. وهؤلاء جميعاً يرفعون شماعة «المجموعات المتطرّفة» لفرض تغيير كبير يعيد الاعتبار إلى «فتح» كقوة مركزية رئيسية قابضة على القرار السياسي وغير السياسي للفلسطينيين في مخيمات لبنان، رغم أن الحركة نفسها تشظّت وتمزّقت من داخلها، ولم تعد صالحة لهذه المهمة، كما لم تعد تحظى بالشعبية التي كانت عليها سابقاً، وهي لا تجذب اليوم سوى المستفيدين من «مكرمات» سلطة رام الله. بل يوجد داخل الحركة نفسها نقاش وخلاف كبير حول كيفية التعامل مع الوضع، ولو أن كل هؤلاء، يجمعون على مخاصمة القوى الإسلامية، سواء المتطرفة والتكفيرية منها أو المعتدلة وعلى رأسها حركة حماس نفسها.
لا يزال هناك في لبنان من يدفن رأسه في الرمال، ويعتقد بأن ما يحصل في عين الحلوة سببه موضعي بوجود مجموعات متطرفة فيه. وينفي هؤلاء أي علاقة لقائد المخابرات الفلسطينية ماجد فرج بما يجري اليوم، رغم علمهم بأن تثبيت وقف إطلاق النار يحتاج إلى قرار منه شخصياً. فهو الآمر الناهي الذي تفوق سلطته على الأرض سلطة السياسيين من عزام الأحمد إلى محمود عباس!