قبل الأزمة كانت السجون اللبنانية مأزومة، فكيف بعد أزمة اقتصادية زادت الطين بلّة وانعدمت معها أبسط مقوّمات الحياة المتعلّقة بالغذاء والصحّة والنظافة.
تعجّ الزنزانات بعشرات الموقوفين الآتين إليها من بيئات وأعمار مختلفة، والذين يكون محظوظاً من يغنم منهم بزاوية مولياً وجهه نحو الحائط الإسمنتي فينام بقربه كي لا يشتمّ نفَس زميله السجين.
السجون المركزية في رومية وزحلة وطرابلس وكلّ باقي السجون الصغيرة وأماكن التوقيف، تكتظّ بالسجناء وتعاني الأمرّين. قبل عام 2019، كانت الدولة تتكفّل برعايتها صحيّاً، فتوفّر لنزلائها العلاج الطبّي وتغطّي كلفة الاستشفاء، وأمّا اليوم فالأمر مختلف. الوزارات المعنيّة بالسجون باتت عاجزة عن تحمّل تكاليف دخول أيّ سجين المستشفى، ومعها يعجز ذوو السجناء عن تكبّد مصاريف علاجهم. ازدادت حالات الوفيات وتدهورت صحّة العشرات، بعدما بات توفير الأدوية مجّاناً يقتصر على أصناف خفيفة لا تحاكي الأمراض المزمنة والمستعصية.
قبل الأزمة كانت السجون اللبنانية مأزومة، فكيف بعد أزمة اقتصادية زادت الطين بلّة وانعدمت معها أبسط مقوّمات الحياة المتعلّقة بالغذاء والصحّة والنظافة
عند العبور بالقرب من سجن رومية المركزي، وهو أكبر سجن في لبنان، تُرصد مأساة حقيقية تقرأها في عيون من حاول استراق النظر من خلف قضبان النوافذ التي تحوّلت إلى مناشر للملابس والوسادات المتدلّية علّه يستشعر وهج الشمس الذي تاق إليه منذ أن نُسي أمره خلف الجدران السميكة. لا يبدو المنظر أفضل في الداخل، حيث نحو 30 سجيناً في غرفة ضيّقة، و”النفس عالنفس” والأحاديث التي يتململ منها البعض قد تتحوّل إلى إشكال ينتهي بالتضارب، ومن حاول الاختلاء بنفسه في “بيت الراحة” لا يجد الراحة فيه على الإطلاق، فعيون الجميع ترصده، يساعدها خلوّ حمامات الغرف من أبوابها.
الاكتظاظ.. وخدمة “الفيديو كول”
تفوق أعداد النزلاء في السجون التوقّعات، فأكثر من 8,500 سجين في لبنان، نصفهم تقريباً غير لبنانيين، باتوا المعضلة الأساسية في السجون المركزية الثلاثة: رومية وزحلة وطرابلس، وفي 22 سجناً آخر هي عبارة عن نظارات ومراكز توقيف. وجميع النزلاء يشكون بطء المحاكمات وسوء التغذية وانعدام الطبابة.
يحوي سجن رومية وحده نحو 3,800 موقوف، فيما قدرته الاستيعابية لا تتجاوز 1,500، في حين يتوزّع العدد الباقي على باقي السجون.
يكشف مصدر مطّلع على أوضاع السجون لـ”أساس” أنّ “المشكلة الأساسية تكمن في الاكتظاظ. إذ تبلغ نسبة الإشغال نحو 270 في المئة، بمعنى أنّ الغرفة التي تتّسع لعشرة موقوفين يُسجن فيها نحو 27”. ويقول إنّ “معظم المشاكل تندرج تحت هذا الإطار، فالبنى التحتية غير مجهّزة، ونوعية الأكل تراجعت مع الأزمة الاقتصادية، ومثلها الطبابة، حتى الضباط وعناصر قوى الأمن الداخلي يعانون لحرمانهم من الطبابة والاستشفاء، فكلّ الأدوية حتى تلك المخصّصة للعناصر الأمنيّة تذهب لصيدلية السجون، وهذه أولوية، ومع ذلك تعاني أماكن التوقيف من شحّ كبير في الأدوية، لا سيما تلك العائدة للأمراض المزمنة والمستعصية”.
لولا منظمة الصحة العالمية لكان الوضع في السجون كارثياً، يضيف المصدر المطّلع، ويشير إلى أنّ “المنظمة تعاقدت مع إحدى شركات التأمين وبات بالإمكان إدخال سجين حالته خطرة الى المستشفى لإجراء عملية فيما لو وجدت أنّ حالته الصحية تستلزم ذلك”. ولا يخفي “تراجع نوعية الطعام في السجون، إذ تمّ تقليل كميات الدجاج واللحوم التي تقدّم كوجبات للسجناء وباتت لا تتعدى مرّة واحدة أو اثنتين أسبوعياً فيما يتم التركيز على الحبوب كوجبة أساسية”.
لكنّه يعتبر أنّ “الوضع تحسّن قليلاً، لاسيما مع استجرار عروض جديدة للسلع المبيعة في “حانوت” السجن (الدكان) بأسعار باتت معقولة جداً وغير باهظة كما كانت في السابق، وهو ما يُمكّن السجناء من شراء حاجياتهم ومأكولاتهم منها”.
يفصح المصدر عن “خدمة جديدة سيتم إطلاقها قريباً في السجون سُمّيت “E-VISITE”، بدعم من الصليب الأحمر اللبناني، إذ تم تجهيز غرفة في كل سجن بكمبيوترات ووسائل اتصال تُمكّن النزيل من التواصل مع أهله بطريقة الـ”video call”، وهو ما سيخفّف أعباء التنقل وتكاليفه على الأهل فيتمكّنون من التواصل مع ابنهم بالصوت والصورة علّها تكون متنفّساً للسجين وذويه”.
تعجّ الزنزانات بعشرات الموقوفين الآتين إليها من بيئات وأعمار مختلفة، والذين يكون محظوظاً من يغنم منهم بزاوية مولياً وجهه نحو الحائط الإسمنتي فينام بقربه كي لا يشتمّ نفَس زميله السجين
التوقيف الاحتياطيّ وبطء القضاء
وفقاً للمادة 108 منقانون أصول المحاكمات الجزائية، ترى الخبيرة في القانون الجنائي المحامية ديالاشحادة في حديث لـ”أساس” أنّه “باستثناء حالة المحكوم عليه سابقاً بعقوبة مدّتها سنة على الأقل، لا يجوز أن تتعدى مدّة التوقيف في الجنحة شهرين ويمكن تمديدها مدّة مماثلة كحدّ أقصى. وبعيداً عن جنايات القتل والمخدّرات والاعتداء على أمن الدولة والجنايات ذات الخطر الشامل وجرائم الإرهاب لا يجوز أن تتعدّى مدّة التوقيف في الجناية 6 أشهر، يمكن تجديدها لمرّة واحدة بقرار معلّل”.
وتضيف: “على الرغم من كل الظروف التي يعاني منها البلد لم نلمس أيّ توجّه قضائي للتخفيف من التوقيف الاحتياطي، كما أنّ مسألة إخلاءات السبيل في الجنح، وبدلاً من أن تقصّر مدّتها، نجدها طالت بسبب البطء في سير جلسات التحقيق والمحاكمة أو بسبب الاعتكاف القضائي، أو بسبب مشكلة الخدمات الأساسية والبنى التحتية للمحاكم والدوائر العدلية وغيرها”.
تعتبر شحادة أنّ “النظام القضائي في لبنان عاجز عن تلبية الحقوق الدستورية للمحاكمة العادلة”، وتحمّل المسؤولية للحكومات المتعاقبة لأنّها “تتحكّم بالأداء القضائي وتمنع استقلاليته”. وتختم بالقول: “إنّه التدمير النفسي والمعنوي للسجناء في ظل غياب برامج تأهيل وظروف صحية ملائمة، وهو ما يعزّز الاضطراب والنقمة عند السجناء حتى بعد الإفراج عنهم”.
قنبلة موقوتة
بحسب “منظمة العفو الدولية”، تضاعف عدد الوفيات في مراكز التوقيف والسجون اللبنانية في عام 2022 مقارنة بعام 2018، قبل بدء الأزمة الاقتصادية. ويصف المدير العام لـ”مركز سيدار للدراسات القانونية” المحامي محمد صبلوح في حديث لـ”أساس” أوضاع السجون بـ”الكارثي وغير الإنساني”، مذكّراً بأنّ “معظم الموقوفين هم من الطبقة الفقيرة والكثير منهم لم يلمح وجه قاضٍ منذ سنوات”، وأنّ “هناك استهتاراً في قضايا السجناء تتحمّل مسؤوليته الوزارات المعنية بالسجون”. ويسأل: “هل يُعقل أن يتمّ حبس شخص لمدة طويلة وهو لا يعرف لماذا هو موقوف؟”.
يُحمّل المحامي المسؤولية عن اكتظاظ السجون إلى القضاة أنفسهم: “هم وإن أضربوا بسبب مطالبهم المحقّة، إلا أنّه لا يجوز حجز حرّية أشخاص لأشهر وسنوات بسبب جنحة”. ويعبّر صبلوح عن أسفه “لتحوّل السجون إلى مراكز لتخريج المجرمين بدلاً من أن تكون مراكز إصلاح وتأهيل”. ويؤكّد أنّ لبنان “لا يراعي النظام الداخلي للسجون ولا الاتفاقات الدولية، فكيف يمكن سجن مَن هو متّهم بشيك بلا رصيد في زنزانة واحدة مع متّهمين بقضايا اتّجار بالمخدرات أو إرهاب، فحتى القصّار لا يحالون إلى مبنى الأحداث فور توقيفهم، بل يُؤجّل الأمر إلى حين انتهاء التحقيقات الأوليّة التي قد تستغرق أشهراً”.
عجز الأهالي عن عدم دفع تكاليف علاج أبنائهم هو أمّ المشاكل، لاسيما بعد الأزمة الاقتصادية الحالية.
يتحدّث المدير العام لـ”سيدار” عن “خلوّ صيدلية السجن من أبسط أنواع الأدوية”. ويلفت إلى أنّ “السجناء يموتون موتاً بطيئاً من قلّة الدواء أو المعاينة الطبية، فوفاة السجين غسان صليبي دليل على ما أقول، إذ كان يحتاج إلى إجراء عملية قلب مفتوح بكلفة 7,500 دولار، ولمّا عجزت عائلته وأهل الخير عن تأمين المبلغ للمستشفى التي لا تتعاطى إلا بـ”الفريش دولار” ساءت صحّته وخسر حياته”. ويختم: “الأمر ينذر بالأسوأ والسجون قنبلة موقوتة تتحمّل السلطة السياسية مسؤولية ما آلت إليه أوضاعها”.
مأساة السجناء وذويهم
يشرح السجين “ع. د.” المأساة التي يعيشها داخل سجن “رومية” ويقول في اتصال مع “أساس”: “نحن نعيش مع الأمراض ونشرب المياه الملوّثة ونتنفّس الأوساخ والروائح النتنة ونتعرّض للعنف النفسي ونفتقر إلى أبسط حقوقنا، فالأكل لا يصلح حتّى للحيوانات، نوعيّته رديئة وكميّته قليلة”. ويلفت إلى أن “أسعار الطعام والمعلبات في حانوت السجن باهظة ولا يمكننا تحمّل كلفتها، والوضع الطبي كارثي ونحن نشكو من ندرة الأطباء فإن عانينا من ألم في الضرس فنحن من نشتري البنج”. ويؤكّد أنّ “بعض السجناء توفّوا داخل الزنزانة بسبب عدم قدرتهم على تأمين الدواء أو إجراء عملية ضرورية، وكلّ ذلك يزيد من وضعنا النفسي سوءاً”.
تروي “أم علي” وهي والدة سجين، الوضع المزري الذي يعيشه ابنها الموقوف منذ ستة أشهر، قائلة: “ابني يرفض الأكل من طعام السجن ويقول أكل السجن سيّئ لدرجة أنّه وإن شمّته القطط تبتعد عنه، واللحوم معدومة والتركيز على الحبوب والبرغل المطبوخ بالماء، أمّا كلفة الدواء والنقل فهي المعضلة الكبرى”.
أمّا “سميرة” وهي زوجة سجين موقوف منذ سنتين، فتشكو من “بطء العدالة وعدم خضوع زوجها للمحاكمة وعدم قدرتها على زيارته باستمرار بسبب غلاء كلفة المواصلات”. تبكي الزوجة بحرقة وهي تشرح معاناة أطفالها الأربعة في ظل غياب معيل العائلة عن بيته… وغيابه قد يطول مثل 8.500 آخرين، فوق المدّة التي يستحقها كسجين، لكلّ الأسباب المذكورة.