كلما طلب سفير غربي موعداً لمقابلة مسؤول رسمي سأله اولاً: «ماذا عندكم؟»، ثم: «ماذا ستفعلون؟». همّه الاطمئنان الى امتناع حزب الله عن الانخراط في حرب غزة كأنه هاجس وحيد، من غير امتلاكه جواباً لمضيفيه: «ماذا ستفعل اسرائيل بعد الآن؟». لا ذاك عنده، ولا هذا
ad
أول مَن أرسل اشارات سلبية الى اخطار قد تكون محدقة بلبنان غداة 7 تشرين الاول، كان موظفو بعثة صندوق النقد الدولي في بيروت بأن غادروا قبل انقضاء 48 ساعة على هجوم حماس على غلاف غزة. تفادياً لما خبره الصندوق لدى اجلائه موظفيه في افغانستان في آب 2021 وفي السودان في نيسان 2023 وافتقاره الى لوجستيات الترحيل، فيما لا يزيد طاقمه في بيروت عن عشرة، طلبت منهم ادارتهم في واشنطن المغادرة فوراً. بعد ثلاثة ايام لحق بهم موظفو بعثة البنك الدولي وعددهم ضعف اولئك. من بعدهم في الاسبوعين الاخيرين كرت سبحة السفارات ولا تزال. كلما استفسر المسؤولون الرسميون من سفراء غربيين بارزين عن دوافع ترحيل رعاياهم اكتفوا بالاجابة، على غرار صندوق النقد والبنك الدولي، انها اجراءات احترازية بناء على طلب حكوماتهم ليس الا. اما الجزء الباقي من احاديثهم مع المسؤولين اللبنانيين، فهو الاستفسار عما سيفعله حزب الله ولبنان حيال حرب غزة.
خلافاً لمغزى تعليمات الترحيل باظهار القلق والخوف من الآتي على جبهة الجنوب، يحضر السفراء كي يعلموا لا كي يُعلِموا. لا تملك الحكومة اللبنانية ان تجيبهم. احدهم سألها عما يمكن ان يُقدم عليه حزب الله. جواب مسؤول حكومي انها ارسلت اليه اسئلة لم يُجبها عن معظمها. بينما تقول الحكومة اللبنانية انها مطمئنة الى اشارات غير مباشرة من الحزب مؤكداً حرصه على استقرار لبنان، لحزب الله جواب قاطع: لم يطمئن احداً ولن يطمئن اي احد.
عندما يُسأل السفراء اولئك عما يبصرونه في المرحلة المقبلة، يتحدثون عن معطيات خمسة:
اولها، ليس لبنان اصل المشكلة، بل غزة والحرب الناشبة بين اسرائيل وحماس. الا انه، بل حزب الله، مصدر فعلي لتوسّع الحرب اذا عزم على الانخراط فيها.
ثانيها، رغم التوتر البادي في الايام الاخيرة بين الاميركيين والايرانيين مذ تصاعدت الهجمات على القواعد العسكرية الاميركية في العراق وسوريا، الا ان كلا البلدين لا يتوقف عن توجيه رسائل سياسية ضمنية، غير مباشرة، الى الآخر برفض الحرب المفتوحة واشتعال جبهات المنطقة كلها.
ثالثها، لم يعد سيناريو ما نشأ في اللحظات التالية لما حدث في 7 تشرين الاول والتكهنات التي اعقبته هو النافذ في الوقت الحاضر. وضعت زيارة الرئيس الاميركي جو بايدن لاسرائيل اخيراً – وإن باصراره على الوقوف الى جانبها وتبنّي وجهات نظرها في ما حدث في الايام المنصرمة – سقفاً لما يفترض ان تؤول اليه تطورات المرحلة التالية. ذلك ما فسّر تأجيل الهجوم البري الاسرائيلي على غزة يوماً تلو آخر. مع انه في الحسبان قائم ينتظر توقيته، الا ان احداً وخصوصاً الاميركيين والاسرائيليين لا يسعه الا تحسُّب ما سينتهي اليه وكيف؟ ومدى القدرة على تحقيق تقدّم نوعي حاسم والكلفة التي سيتكبدها الاسرائيليون في جيشهم والمسؤولية التي سيتحمل الاميركيون تبعتها السياسية. ذلك ما يحمل السفراء اولئك على الاعتقاد بأن المنطقة تمر في نهاية البداية لا في بداية النهاية.
رابعها، ان القلق الفعلي من الحرب الدائرة في غزة الآن وامتداداتها ليس الاشتباكات عند الجبهة الشمالية وتدمير اسرائيل القطاع، بل الخوف من ان تكون المرحلة المقبلة تغيير الجغرافيا واعادة النظر في الحدود الحالية. لا يطاول غزة فحسب، بل يمتد ايضاً الى مصر والاردن. في حسبان اسرائيل ان الهجوم البري الواسع لاحتلال ما امكن من غزة في مرحلة اولى، يرمي الى احداث هذا التغيير بتهجير اهالي القطاع، او التنبؤ باحتمال طرح الدولة العبرية حزاماً امنياً واسعاً. ليس على صورة الحزام الامني الذي انشأته في جنوب لبنان بين عامي 1978 و2000 وأزيل باجلائها عنه، بل محاولة الغاء القطاع في جغرافيته الحالية. ذلك ما يفسّر في اعتقاد السفراء امام المسؤولين اللبنانيين – وهم يشرحون مراقبتهم للاحداث الى حد كبير – حماوة الاشتباكات في الجبهة الشمالية لاسرائيل. ما يجزمون به ايضاً وإن لا يتوقفون عن طرح سؤالهم عما سيفعله حزب الله في الساعات الصعبة، استبعاد فتح جبهات جديدة ما دام اللاعبون الاصلاء، الاميركيون والايرانيون، يقولون انهم لا يريدون حرباً شاملة، ولا يمانعون في عضّ الاصابع.
خامسها، مع انهم لا يكتمون تأييدهم اسرائيل ومناوأتهم حماس المحسوبة منظمة «ارهابية» وتحفظهم في الوقت نفسه عن استمرار استهداف المدنيين في غزة، على انهم يقولون ان ما يفعله الجيش الاسرائيلي في غزة يستعيد الدرس نفسه المستمد من حرب تموز 2006 في لبنان: ضرب البنية التحتية للقوة العسكرية لحماس وترسانتها وكذلك تدمير مجتمعها وبشرها لا يغيّر في المعادلة شيئاً. ذلك ما حدث في نهاية حرب 2006. انتصر الضعيف ولم ينتصر القوي. صمود حزب الله احال كل ما تعرّض اليه واضعافه وايذاء مجتمعه وتخريب لبنان برمته منتصراً على اسرائيل، فيما اخفقت هي في تصفيته وهي المهمة التي اوجبت مهاجمة هذا البلد. اعاد الحزب تدريجاً بناء ترسانته واضحى لاعباً اقليمياً يُحسب حسابه، ويُنظر اليه الآن على انه اكثر الاخطار جدية في حرب غزة يملك ان يشعل المنطقة كلها. المعادلة نفسها مرشحة لأن تستعاد مع حماس اياً تكن وطأة الضربات التي تتلقاها، وسيكون في وسعها الزعم انها هي المنتصرة اخيراً لمجرد بقائها واسرائيل المهزومة.