كشفت وثائق ورسائل بريد إلكتروني ومقابلات نشرت جزءاً منها صحيفة “نيويورك تايمز” أنّ المسؤولين الإسرائيليين كانوا على علم بخطة حماس القتالية للهجوم الإرهابي الذي وقع في 7 أكتوبر (تشرين الأول) قبل أكثر من عام من وقوعه، لكنّ مسؤولي الجيش والمخابرات الإسرائيليين رفضوها ووصفوها بأنّها طموحة وأنّ تنفيذها صعب للغاية على حماس وتجاهلوا التحذيرات المحدّدة.
أربعون صفحة أُهملت
الوثيقة المترجمة المكوّنة من 40 صفحة تقريباً، وفقاً لمراسلي الصحيفة في تل أبيب رومين برغمان وآدم غولدمان، والتي أطلقت عليها السلطات الإسرائيلية اسم “جدار أريحا”، لم تحدّد موعد الهجوم لكنّها حدّدت بالضبط نقطة بنقطة نوع الغزو المدمّر الذي أدّى إلى مقتل حوالي 1,200 شخص، فوصفت هجوماً منهجياً يهدف إلى اجتياح التحصينات المحيطة بقطاع غزة، والاستيلاء على مدن إسرائيلية واقتحام قواعد عسكرية رئيسية، بما في ذلك مقرّ فرقة عسكرية، وشمل إطلاق وابل من الصواريخ في بداية الهجوم، وطائرات بدون طيار لتدمير الكاميرات الأمنية والمدافع الرشّاشة الآلية على طول الحدود، وتدفّق المسلّحين إلى إسرائيل بشكل جماعي في طائرات شراعية ودرّاجات نارية وعلى الأقدام.
تكشف الوثيقة، عن سلسلة من الأخطاء استمرّت لسنوات بلغت ذروتها في ما يعتبره المسؤولون الآن أسوأ فشل استخباري إسرائيلي منذ الهجوم المفاجئ الذي أدّى إلى الحرب العربية الإسرائيلية عام 1973
حدث كلّ ذلك في 7 أكتوبر (تشرين الأول)، حيث اتّبعت حماس بدقّة مذهلة الخطّة التي تضمّنت أيضاً تفاصيل حول موقع وحجم القوات العسكرية الإسرائيلية ومراكز الاتصالات وغيرها من المعلومات الحسّاسة، وهو ما أثار تساؤلات حول كيفية قيام حماس بجمع معلوماتها الاستخبارية وما إذا كانت هناك تسريبات داخل المؤسّسة الأمنية الإسرائيلية.
وفقاً للوثائق والمسؤولين كما نقلت “نيويورك تايمز”، تمّ تداول الوثيقة على نطاق واسع بين القادة العسكريين والمخابرات الإسرائيلية، لكنّ الخبراء قرّروا أنّ هجوماً بهذين الحجم والطموح يتجاوز قدرات حماس. وكان من غير الواضح ما إذا كان رئيس الوزراء بنيامين نتانياهو أو غيره من كبار القادة السياسيين قد اطّلعوا على الوثيقة أيضاً. على الرغم من أنّ مسؤولين في فرقة غزة العسكرية الإسرائيلية، المسؤولة عن الدفاع عن الحدود مع غزة، أبلغوا في العام الماضي، بعد وقت قصير من الحصول على الوثيقة، أنّ نوايا حماس غير واضحة. وجاء في تقويم عسكري لهم: “ليس من الممكن بعد تحديد ما إذا كانت الخطة قد تمّ قبولها بالكامل وكيف سيتمّ تطبيقها”.
سلسلة من الأخطاء الإسرائيليّة
تكشف الوثيقة، عن سلسلة من الأخطاء استمرّت لسنوات بلغت ذروتها في ما يعتبره المسؤولون الآن أسوأ فشل استخباري إسرائيلي منذ الهجوم المفاجئ الذي أدّى إلى الحرب العربية الإسرائيلية عام 1973. ولقد اعترف مسؤولون أمنيون إسرائيليون بالفعل بأنّهم فشلوا في حماية البلاد، وكان الأساس وراء كلّ هذه الإخفاقات هو اعتقاد واحد غير دقيق إلى حدّ كبير بأنّ حماس تفتقر إلى القدرة على الهجوم وأنّها لن تجرؤ على القيام بذلك. وقال المسؤولون إنّ هذا الاعتقاد كان متأصّلاً في الحكومة الإسرائيلية، لدرجة أنّهم تجاهلوا الأدلّة المتزايدة التي تشير إلى عكس ذلك.
وثيقة “جدار أريحا”، التي سُمّيت على اسم التحصينات القديمة في الضفة الغربية الحديثة، كانت واضحة. وتحدّثت بالتفصيل عن هجمات صاروخية لتشتيت انتباه الجنود الإسرائيليين ودفعهم إلى المخابئ، وإطلاق طائرات بدون طيار لتعطيل الإجراءات الأمنية المتقنة على طول السياج الحدودي الفاصل بين إسرائيل وغزة، واختراق مقاتلي حماس 60 نقطة في الجدار، واقتحامهم الحدود إلى إسرائيل. كما كان أحد أهمّ الأهداف الواردة في الوثيقة هو اجتياح القاعدة العسكرية الإسرائيلية في رعيم، التي تضمّ فرقة غزة المسؤولة عن حماية المنطقة. كما تمّ إدراج القواعد الأخرى التي تقع تحت قيادة الفرقة.
الوثيقة المترجمة المكوّنة من 40 صفحة تقريباً، وفقاً لمراسلي الصحيفة في تل أبيب رومين برغمان وآدم غولدمان، والتي أطلقت عليها السلطات الإسرائيلية اسم “جدار أريحا”، لم تحدّد موعد الهجوم
خطّة حماس مقتبسة من القرآن
كشف التقرير أنّ الوثيقة تبدأ باقتباس من القرآن: “قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِن يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ (22) قَالَ رَجُلَانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ (23)” (سورة المائدة) وقد استخدمت حماس العبارة نفسها على نطاق واسع في مقاطع الفيديو والبيانات الخاصة بها منذ هجومها في السابع من أكتوبر. ونقل التقرير عن مسؤولين إسرائيليين قولهم إنّ جرأة المخطّط جعلت من السهل الاستهانة به. فكلّ الجيوش تضع خططاً لا تستخدمها أبداً، وقدّروا أنّه حتى لو غزت حماس البلاد، فإنّها قد تحشد قوة تتألّف من بضع عشرات، وليس المئات. وهم أخطأوا أيضاً في تفسير تصرّفات حماس إذ اعتبروا أنّ تفاوض الحركة للحصول على تصاريح للسماح للفلسطينيين بالعمل في إسرائيل علامة على أنّها لا تسعى إلى الحرب. كما أنّ حماس كانت تقوم بصياغة خطط هجومية لسنوات عديدة، وقد حصل المسؤولون الإسرائيليون على نسخ سابقة منها.
غير أنّ ما كان يمكن أن يكون انقلاباً استخبارياً تحوّل إلى واحد من أسوأ الحسابات الخاطئة في تاريخ إسرائيل الممتدّ لـ 75 عاماً. ويشير التقرير إلى أنّه في أيلول 2016، أصدر مكتب وزير الدفاع مذكّرة سرّية للغاية تعتمد على تكرار سابق لخطّة هجوم حماس. وجاء في المذكّرة التي وقّعها وزير الدفاع آنذاك، أفيغدور ليبرمان، أنّ الغزو واحتجاز الرهائن “سيضرّان بشكل كبير وجسيم بوعي ومعنويات مواطني إسرائيل”. كما أشارت المذكّرة إلى أنّ حماس اشترت أسلحة متطوّرة وأجهزة تشويش GPS وطائرات بدون طيار، وزادت قوّتها القتالية إلى 27,000 فرد، بعدما أضافت 6,000 إلى صفوفها في فترة عامين. وكانت رغبة حماس في الوصول إلى 40 ألفاً بحلول عام 2020، حسبما جاء في المذكّرة.
في العام الماضي، بعدما حصلت إسرائيل على وثيقة “جدار أريحا”، قامت فرقة غزة العسكرية بصياغة تقويمها الاستخباري الخاص لخطة الغزو الأخيرة. وبحسب تقرير نيويورك تايمز، كتب محلّلون في تقويم المذكّرة أنّ حماس “قرّرت التخطيط لغارة جديدة على نطاق غير مسبوق، وتعتزم تنفيذ عملية خداع تتبعها مناورة واسعة النطاق بهدف التغلّب على الانقسام. لكنّ شعبة غزة أشارت إلى الخطّة على أنّها “بوصلة”. بمعنى آخر، قرّرت أن حماس تعرف إلى أين تريد الذهاب، لكنّها لم تصل إلى هناك بعد. وفي 6 تموز 2023، كتب المحلّل المخضرم في الوحدة 8200 إلى خبراء استخبارات آخرين أنّ العشرات من كوماندوس حماس أجروا أخيراً تحت إشراف كبار قادة الحركة تدريبات تضمّنت تجربة إسقاط طائرات إسرائيلية والاستيلاء على كيبوتز وقاعدة تدريب عسكرية، مع مقتل جميع الطلاب العسكريين.
أشار المحلّل إلى أنّ المقاتلين استخدموا خلال التدريب، نفس العبارة من القرآن التي ظهرت في خطة “جدار أريحا”، وأنّ التدريبات تتبع بشكل وثيق الخطة، وأنّ حماس تعمل على بناء القدرة على تنفيذها.
وفقاً للوثائق التي كشفت عنها الصحيفة، أشاد العقيد في فرقة غزة بالتحليل، لكنّه قال إنّ التدريب كان جزءاً من سيناريو “خيالي تماماً”، وليس مؤشّراً إلى قدرة حماس على تنفيذه. وأيّد بعض زملائه هذا الاستنتاج، غير أنّ محلّلين آخرين استحضروا دروس حرب 1973، التي اجتاح فيها الجيشان السوري والمصري الدفاعات الإسرائيلية وأعادت القوات الإسرائيلية تجميع صفوفها وصدّت الغزو، لكنّ الفشل الاستخباري كان بمنزلة درس لمسؤولي الأمن الإسرائيليين لفترة طويلة. وكتب أحدهم “لقد مررنا بالفعل بتجربة مماثلة قبل 50 عاماً على الجبهة الجنوبية في ما يتعلّق بسيناريو بدا خيالياً، وقد يعيد التاريخ نفسه إذا لم نكن حذرين”.