كالعادة، خطّط الأميركيون من بعيد، فيما أدار الفرنسيون والقطريون محرّكاتهم، ولاقتهم البطريركية المارونية والقوات اللبنانية و«القوى السيادية»، لتنفيذ سيناريو الفيلم الأميركيّ الطويل للتمديد لقائد الجيش العماد جوزف عون الذي يحال إلى التقاعد في العاشر من الشهر المقبل: كرمى لطموحات القائد الرئاسية، يلتئم شمل المتخاصمين في المجلس النيابي، وينقلب البعض على كل مواقفه السابقة بمعارضة أي تشريع مهما كان ضرورياً في ظل الفراغ الرئاسي، لاحسين كل شعارات دولة المؤسسات والقانون.ولأن مصائب قوم عند قوم فوائد، جاءت التطورات العسكرية في لبنان والمنطقة عقب عملية «طوفان الأقصى» لتزيد من فرص تحقيق السيناريو، وتجعل التمديد «حتمياً». ورغم انشغالات قائد القيادة الوسطى للجيش الأميركي مايكل كوريلا بالتطورات في فلسطين المحتلة منذ السابع من تشرين الأول الماضي، لم تتزعزع ثقة «القائد» به ورهاناته عليه، مراهناً في الوقت نفسه على أن حزب الله الذي بقي ملتزماً الصمت «لن يغضب الأميركيين في هذه اللحظة». هكذا، أوفد قائد الجيش الأسبوع الماضي موفدَين إلى باريس التقيا مسؤولين في الإليزيه بهدف وضع اللمسات الأخيرة على السيناريو، والضغط على المسؤولين في لبنان لتسريع إجراءات تطبيقه. وبلغت الثقة بالتمديد حدّ قيام متعهّد من المقرّبين من عون، الأسبوع الماضي، بحجز غالبية فرق الزفّة في الساحل المتنيّ لمواكبته بـ«عرس شعبيّ». ولم يكن ينقص عون ورهاناته إلا أن يراهن رئيس حزب القوات اللبنانية سمير جعجع عليه أيضاً، محوّلاً معركة تمديد حظوظه الرئاسية إلى معركة قواتية، ليصبح التمديد في حال حصوله انتصاراً سياسياً لمعراب ومقياساً جديداً للتوازنات الرئاسية في البلد.
كل هذه المعطيات كوّنت ثقة مطلقة لدى القائد، في الأيام القليلة الماضية، بأنه سينال ما لم ينله عباس إبراهيم ورياض سلامة لأنهما لم يمثّلا حاجة للأميركيين شأن ما يمثّله هو. وهنا بيت القصيد. فمشروع التمديد لا صلة له بمصالح الناس ولا بمصالح المؤسسة العسكرية، وإنما بمصالح «أمن قومي» خارجية تحدّث عنها موفدون غربيون بوضوح. وكما أن خروج سلامة لم ينعكس سلباً على مصالح الناس ولا على مصرف لبنان الذي زادت احتياطاته وأُلغيت مزاريب هدر فيه، وكما أن تعيين العميد الياس البيسري مديراً للأمن العام لم يقضّ مضاجع الشيعة ولم يعطل عمل المؤسسة، وكما أن أحداً لا يجعل من إحالة مدّعي عام التمييز على التقاعد افتئاتاً على طائفته، يفترض ألا يكون لعدم التمديد لعون أي تداعيات سلبية لا على مصير المؤسسة غير المعلّق على شخص، ولا على مصالح الطائفة المارونية التي لا تُجمِع على التمديد له.
فجأة تحرّكت أيْدٍ «خفية» لمواجهة الأيْدي الأميركية الواضحة التي دفعت القوات اللبنانية ونواباً مستقلين وتغييريين إلى الانقلاب على موقفهم برفض التشريع في غياب رئيس الجمهورية، لتُسجل ثلاثة أحداث رئيسية:
1 – دعا الرئيس نبيه بري إلى جلسة تشريعية عامة تتضمن 103 بنود، يسبق البند الخاص بالتمديد البند الرقم 2 الخاص بالكابيتال كونترول الذي يفترض أن يشهد هرجاً ومرجاً نيابيَّيْن طويليْن قبل أن يُحوّل إلى اللجان المشتركة، لتبدأ المشاكل مجدداً في البند السابع الخاص بتعديل قانون الضمان الاجتماعي، ويتطور النقاش بسلبية أكبر في البندين الثامن الخاص بالصندوق السيادي والتاسع الخاص بقانون الإيجارات، لتبلغ إضاعة الوقت ذروتها في البند الحادي عشر الخاص باستقلالية القضاء، وهو ما قد يتطلب يومين وربما ثلاثة قبل الوصول إلى بند التمديد. وقد أصاب الرئيس نبيه بري بدعوته هذه أربعة أهداف: أسقط عبر القوات اللبنانية التعطيل المسيحيّ لمجلسه بحجة عدم جواز التشريع في غياب رئيس الجمهورية، وعرّى انقلاب القوات على كل مزايداتها السابقة، وإعلان رئيسها في 23/3/2023 أن أي جلسة تشريعية في ظل الفراغ «غير دستورية»، وفي 10/2/2023 أن الدعوة إلى جلسة تشريعية «فجور وانعدام في المنطق»، وفي 13/4/2023 بعدم وجود «أي ذريعة» تبيح للمجلس التشريع في غياب الرئيس. وبموازاة ضربة بري لـ«مبدئية» جعجع، فضح أيضاً «المستقلين» وغالبية «التغييريين» الذين لحسوا كل شعارات دولة القانون والمؤسسات بعد تعليمة خارجية. كما أرضى رئيس المجلس البطريركية المارونية، وكفّ شر الضغوط الأميركية والأوروبية عنه. مع تأكيد بري اليومي أن التمديد مسؤولية مجلس الوزراء، وأنه لن يطرحه في مجلس النواب في حال قيام الحكومة بواجبها.
2 – تبيّن من جدول الأعمال أن التمديد حتى في حال طرحه في المجلس ليس بالأمر السهل كما خلص إليه اجتماع هيئة المجلس أول من أمس، إذ توجد ستة اقتراحات لا يحظى أيّ منها بالغطاء القانوني الذي يجنّبه الطعن أمام مجلس شورى الدولة، وقبول الطعن، فالتمديد لرتبة العماد، كما تريد القوات اللبنانية، يُعتبر تشريعاً لشخص واحد فقط بما يسقطه قانونياً، فيما تفتح الاقتراحات الأخرى الباب أمام ظلم هائل يلحق بالعمداء والملازمين وسائر من سيُعرقل كل مسارهم العسكري بسبب الخلل في أعلى الهرم الذي يحول دون ترقيتهم. وهنا أيضاً كانت هيئة المجلس واضحة وحاسمة بوجود صعوبة كبيرة في الوصول إلى صيغة دستورية وقانونية يمكن – قانونياً – تشريعها.
موفدان لقائد الجيش إلى باريس لتسريع الضغط على المسؤولين اللبنانيين لتطبيق إجراءات التمديد
3 – بادر مقرّبون من الرئيس نجيب ميقاتي إلى تأكيد وجود حلحلة على صعيد الاجتماع الوزاري المنتظر منذ أكثر من أسبوعين، يشارك بموجبها وزراء حزب الله في الاجتماع ويسجّلون اعتراضاً مبدئياً على الصيغة المتعلقة بتأجيل تسريح القائد. ومع توقّع أن لا يصل النقاش النيابي إلى بند التمديد قبل بعد ظهر يوم الجمعة، تحدّث المقرّبون من ميقاتي عن جلسة حكومية صباح اليوم نفسه تقرّر تأجيل تسريح العماد عون بموجب فتوى سياسية أعدّها ميقاتي، ويمكن بسهول الطعن فيها أمام مجلس شورى الدولة وضمان قبول الطعن. وفي هذا السياق، أكّد نائب رئيس مجلس النواب الياس بو صعب في مؤتمره الصحافي بعيد اجتماع هيئة المجلس واللجان المشتركة أن أمام الحكومة خيارين قانونيين لا ثالث لهما: تبنّي اقتراح وزير الدفاع أو تأجيل التسريح لأننا في «حالة حرب» بعد إصدار مرسوم بذلك، مع كل ما يفرضه ذلك من تداعيات اقتصادية في ما يخص التأمين والاستيراد والتصدير وحركة الطائرات وغيرها. وقد فضح ميقاتي القوات اللبنانية ومزايداتها في ردّه عليها أمس، حين أكد أن عضو كتلة القوات غسان حاصباني كان من ضمن نواب المعارضة الذين زاروه الشهر الماضي طالبين منه تأخير التسريح.
وعليه، مقابل السيناريو الورديّ المتفائل الواثق بحتمية التمديد، بات هناك سيناريو ثان يقضي بأخذ القوات والمستقلين وغالبية التغييريين غداً إلى جلسة تشريعية تنهي مصداقيتهم أمام الرأي العام، قبل أن ينعقد مجلس الوزراء ويقر تأجيل التسريح، ليسحب رئيس المجلس بنود التمديد من الهيئة العامة بسبب قيام الحكومة بواجبها كما كان يطالب منذ البداية، ليصار بعد ذلك ببضعة أيام وقبل ساعات قليلة من بلوغ عون سن التقاعد إلى الطعن في القرار الحكومي الخاص به، وقبول الطعن، فتكفّ يده فوراً ويصدر وزير الدفاع قراراً بتولي الضابط الأكبر سناً مسؤولية القيادة لحين تعيين قائد جديد للجيش.
أي السيناريوهين سيتحقّق؟ ستحفل الساعات القليلة المقبلة بالضغوط لكن ما كتبه رئيس المجلس قد كُتب، وقد أظهرت التجارب الكثيرة أن هناك دائماً من يتحرك بصخب هائل في الوقت الضائع ومن يتحرك بهدوء ودقة في اللحظات الأخيرة، مستفيداً من اطمئنان خصومه وثقتهم المفرطة بأنفسهم وبالأميركيّ. علماً أن التجديد أو التمديد أو تأجيل التسريح، سواء في المجلس النيابي أو في مجلس الوزراء، سيلقى المصير نفسه: طعن متماسك فوريّ يُقبل فوراً، لتكفّ يد القائد الممدّد له فوراً أيضاً.
باسيل: قائد الجيش خان الأمانة
اعتبر رئيس التيار الوطني الحر النائب جبران باسيل في مؤتمر صحافي أمس أن التمديد لقائد الجيش جوزف عون «حالة شاذة وإهانة لكل ضابط مؤهّل ومستحقّ وموقفنا مبدئي وثابت لا علاقة له بالشخص… فكيف إذا كان موقفنا أن الشخص لا يصلح؟». وقال إن «التيار ضد التمديد لأن الشخص المعني خان الأمانة وأصبح عنواناً لقلة الوفاء ويخالف قانون الدفاع الوطني ويتعدّى على صلاحيات الوزير ويخالف بشكل واضح ووقح وعلني قانون المحاسبة العمومية ويتباهى ويفاخر بمخالفة القانون، ونرفض التمديد حرصاً على الجيش لأن الشخص المعني يشتغل بالسياسة والرئاسة، وقد تعلّمنا مما جرى معنا بموضوع رياض سلامة الذي لم نكن يوماً مع إعادة تعيينه، لكننا رضخنا للأمر الواقع وهذا ما لن يحصل اليوم». واعتبر أن «أوجه الشبه بين حالتي رياض سلامة وجوزيف عون كثيرة: نفس القوى الضاغطة محلياً وإقليمياً ودولياً، ونفس الحجج والسردية الكاذبة»، معتبراً أن «لا محل للفراغ في المؤسسات العسكرية والحلول البديلة قانونياً متوفرة، أولها تسلّم الضابط الأعلى رتبة كما حصل في الأمن العام وقيادة الدرك، وثانيها التكليف بالإنابة من قبل وزير الدفاع كما حصل في الضمان الاجتماعي والتنظيم المدني ووزارة الصناعة، وثالثها التعيين بالوكالة، ورابعها التعيين بالأصالة وهو ما لا نؤيده». واعتبر أن «الجو الضاغط هدفه إخفاء المخالفة والأسباب الداخلية والخارجية للتمديد»، لافتاً أن «في الداخل، سببين للتمديد: إبقاء قائد الجيش كورقة سياسية رئاسية، ونكاية بالتيار»، أما الأسباب الخارجية فتتعلق «بتنفيذ سياسة الغرب بموضوع النازحين… ولو لم يكن ذلك لما أبلغني لودريان بأن التمديد للقائد الحالي مسألة أمن قومي لفرنسا وأوروبا… والسبب الثاني تنفيذ سياسة الغرب في ما يتعلق بإسرائيل وحزب الله، أي موضوع المنطقة العازلة». وأضاف أن «القائد الحالي للجيش اختُبر في 17 تشرين حيث نفّذ طلب الخارج بعدم منع الفوضى والتعدي على الأملاك الخاصة والعامة وإقفال الطرقات والمصارف والانقلاب الكبير على رئيس الجمهورية بسبب موقفه الداعم للمقاومة وموضوع النازحين».