سجّلت الولايات المتحدة الأميركية وفرنسا وقطر والسعودية ومصر انتصاراً سياسياً كبيراً في لبنان أمس، عبر إخضاع غالبية الطبقة السياسية لرغبتها بالتمديد لقائد الجيش العماد جوزف عون. وبدت النتيجة في ظاهرها، نكسة لتحالف التيار الوطني الحر وحزب الله. بينما سادت حالة من الزهو «نواب السفارات» وقواهم السياسية، والذين نفّذوا ما طُلب إليهم بالحرف دون أي اجتهاد، في مشهد يعيدنا إلى أيام «الفرمانات السورية» بالتمديد لهذا أو ذاك من المسؤولين المدنيين والعسكريين.ولم يدخل «النواب السياديون» أي تعديل على سيناريوهات 1995 – 2005، فهم التزموا بتنفيذ الطلب الخارجي بإعداد اقتراح قانون يمدّد ولاية قائد الجيش، من خلال عملية استنفار لكامل قواهم النيابية والسياسية والإعلامية، ثم حضروا صاغرين إلى مجلس النواب، وانتظروا الوقت المناسب لأداء الدور، ولم يكتفوا بتكرار لعبة التصويت برفع الأيدي، بل عمدوا أيضاً إلى التصفيق ابتهاجاً وتبادل التهاني على انتصار لا يعرف اللبنانيون لمصلحة من أُنجز.
ad
على أن الأمر ما كان ليتم لولا وجود تواطؤ بين الرئيسين نبيه بري ونجيب ميقاتي والرئيس السابق للحزب الاشتراكي وليد جنبلاط، ما وفّر الأدوات التنفيذية للمسرحية. وهو ما تجلّى في مناورات شارك فيها قائد الجيش نفسه عبر الإيعاز إلى المتقاعدين من العسكريين بلعب دور المشاغب في الشارع.
Ads by Ad.Plus
الفصل الأول: تطيير نصاب الحكومة
منذ صباح أمس، تحوّلت الأنظار إلى السراي الكبير حيث كان متوقّعاً عقد جلسة لمجلس الوزراء هدفها إقرار تأجيل تسريح قائد الجيش، وبعدما تبيّن أن القرار سيُطعن به بسهولة أمام مجلس شورى الدولة، برز «النظام الأمني – السياسي» في وجه جديد، تمظهر باعتصام «غبّ الطلب» للعسكريين المتقاعدين في محيط السراي الحكومي، ما «تسبب» بمنع وزراء من الوصول إلى الجلسة. وبعد دقيقة من الموعد المقرر لبدء الجلسة، أعلن ميقاتي أن النصاب لم يكتمل وأقفل باب القاعة.
وقال عدد من الوزراء إنهم كانوا في أجواء تطيير الجلسة، لأن رئيس الحكومة لا يريد تجرّع الكأس وحدَه، وأنه لا يقدر على مواجهة الضغوط الخارجية. ليتبيّن أنه كان في حالة توافق مع آخرين، يقف في مقدّمهم الرئيس بري وجنبلاط إلى جانب آخرين من الذين تركّزت الاتصالات الخارجية معهم في الفترة الأخيرة.
وينقل بعض الذي اطّلعوا على الاتصالات التي أجراها الأميركيون، حول مسألة التمديد لقائد الجيش، أنهم هدّدوا «بفرط الجيش عبر رفع الدعم عنه وإيقاف المساعدات وبرامج الشراكة والتدريب ونحو ذلك»، في حال لم يتمّ التمديد لعون، ما يعني أن الجيش سيصبح عرضةً للتمزّق والتفرّق، ولن يبقى موحّداً، وهو ما يشكّل هاجساً لدى غالبية القوى اللبنانية، التي ترى في المؤسسة العسكرية نموذجاً للمؤسسات الجامعة والموحّدة في البلد.
حتى «حزب الله» لم يكن بعيداً عن الهاجس، حيث إن آخر ما يتمنّاه الحزب – خصوصاً في الظروف الحالية – هو أن يرى الجيش ينهار ويتهدّده التمزّق، مع ما يترتّب على ذلك من مخاطر أمنية كبرى. لذلك، اعتمد الحزب موقفاً وسطياً، فلم يقف إلى جانب التمديد، ولم يقد حملة ضده، وهو يرى أنه يحمي المؤسسة العسكرية ويحافظ على تماسكها. بينما مثّل موقفه التزاماً مع حليفه التيار الوطني الحر.
وتبيّن أن الضغوط الخارجية لم تقتصر على دول «اللجنة الخماسية» الخاصة بلبنان، بل شملت أيضاً الفاتيكان التي استجابت لطلبات الولايات المتحدة والبطريركية المارونية، وأجرت وزارة الخارجية في الفاتيكان اتصالات بعدة جهات سياسية لبنانية، تمنّت خلالها التمديد لقائد الجيش. حتى إن أحد المطّلعين على مداولات التمديد قال في معرض تعليقه على الضغوط الجارية لإقرار التمديد وضمناً «تمنيات» الفاتيكان: «حتى الله بدّو يمدد لجوزف عون»!
الفصل الثاني: التمديد في المجلس
وبعدما طارت جلسة الحكومة، توجّهت الأنظار من جديد إلى مجلس النواب الذي كان منعقداً لمناقشة مجموعة من مشاريع واقتراحات القوانين، وسرعان ما أعلن الرئيس بري طرح اقتراح قانون معجّل مكرر مقدّم من كتلة الاعتدال الوطني ويقضي «بتمديد سنّ التقاعد للعماد قائد الجيش وقادة الأجهزة الأمنية والعسكرية والذين يمارسون مهامهم بالأصالة أو الإنابة أو الوكالة وبرتبة عماد أو لواء لمدة سنة من تاريخ إحالتهم إلى التقاعد».
وبعدما خرج نواب حزب الله من الجلسة، بدأ تنفيذ الجزء الثاني من السيناريو، والذي قضى بنزول «نواب السفارات» جميعاً من الطابق العلوي، أو المتواجدين في الباحة الخارجية، وانضموا إلى الجلسة. وبينما كان «التغييريون» مارك ضو وميشال دويهي ووضاح صادق قالوا سابقاً بأنهم يرفضون القيام بدور الحكومة، وهو ما صرّح به النائب ضو لـ»الأخبار» قبل أسبوع أنه ودويهي والصادق باتوا يشكلون تكتلاً واحداً ولن يغطوا تقصير السلطة التنفيذية التي تتهرّب من كل الملفات الملحّة وترميها على مجلس النواب، فمسؤولية التمديد تقع على عاتق رئيس الحكومة ووزير الدفاع ومجلس الوزراء (راجع «الأخبار» في 8/12/2023)، لكن ما إن دق النفير حتى تأهّبوا وشاركوا في العملية، وانضم إليهم بقية «نواب السفارات» من سامي الجميل وفيصل الصايغ إلى أشرف ريفي وفؤاد مخزومي وميشال معوض وأديب عبد المسيح. وهؤلاء التزموا الصمت طيلة النقاش، واكتفوا بتنفيذ ما طُلب إليهم عبر رفع الأيدي والتصفيق تماماً كما كان يفعل كبارهم خلال الوجود السوري في لبنان. لكنّ الجميل حاول كما في كل مرة، المزايدة على «القوات» بتلاوة خطاب شعبوي ختمه بالتأكيد على تصويته مكرهاً حماية للأمن القومي لأنه ضد التمديد ولم يلجأ إليه يوماً في حين أنه كان أول من وافق على تمديد ولاية المجلس النيابي في عام 2013. في المقابل، انسحب نواب حزب الله من دون أن يطيّروا النصاب رغم إعلانهم أنهم ضد الفراغ في قيادة الجيش. وبقي كل من النواب بولا يعقوبيان وملحم خلف وياسين ياسين وفراس حمدان جالسين على مقاعدهم مع الصحافيين من دون أن يشاركوا في الجلسة.
وخلال النقاش في القوانين المقترحة من النواب للتمديد ورفع سن التقاعد للأجهزة الأمنية، بدا المجلس كله على وئام خصوصاً «القوات» وحركة «أمل»، إذ كان رئيس المجلس النيابي واضحاً معهم منذ البداية بإهدائهم التمديد إذا أهدوه التشريع. وهكذا كان. أما الكتائب والمستقلون و»التغييريون» فكانوا مجرد أرقام في لعبة النصاب. في حين بدا واضحاً أن الاتفاق قائم على مبادلة التمديد لقائد الجيش بالتمديد للمدير العام لقوى الأمن الداخلي اللواء عماد عثمان، فأعلنت كل الكتل ومنها «القوات» التخلي عن مقترحها الذي يحصر الامتياز بعون، معلنة تأييد اقتراح كتلة الاعتدال الوطني الذي يشرّع التمديد لكل قادة الأجهزة الأمنية بما يشمل عثمان.
اللافت أن عبد المسيح والنائبين هادي أبو الحسن وبلال عبدالله اعترضوا على عدم شمل كل أفراد الأجهزة الأمنية من كل الرتب بهذا القانون، مشيرين إلى غبن سيلحق بالضباط الذين يخرجون قريباً إلى التقاعد، ولكنهم في الوقت نفسه قالوا إنهم سيصوّتون للتمديد لقادة الأجهزة الأمنية حصراً بما يتنافى مع مبدأ شمولية التشريع، موجهين «تحية وفاء للجيش». وما إن كان أي نائب ينتهي من الحديث حتى كانت كتلة «القوات» تصفّق له بحرارة كونها «أم الصبي».
أما الرئيس بري فشدّد في كلمته أن كل اللبنانيين مع الجيش اللبناني والصلاحية الأولى والثانية والثالثة بالتمديد تقع على عاتق الحكومة. ولكن مع تعذّر عقد جلسة، «ارتأينا عقد جلسة مجلس النواب قبيل 15 يوماً من الأعياد خوفاً من الفراغ في قيادة الجيش». وعُرض القانون على التصويت، رفع الكلّ أيديهم تأييداً. وما إن أعلن بري التصديق عليه حتى بدأ النواب يتبادلون التهاني والقبل والعناق كأنهم انتهوا للتوّ من انتخاب رئيس للجمهورية، وخرجوا يتسابقون على المؤتمرات الصحافية والتبجيل بقيادة الجيش.
ad