الحركة الفرنسية تجاه لبنان تبدّلت ظرفيّاً من الرئاسة الى محاولة ضبط الوضع الجنوبي. بين زيارات فرنسية متتالية، تتغيّر مواقف القوى السياسية ممّا تريده باريس، وتبقى الرسائل قائمة بين باريس والضاحية الجنوبية
بين انتقادات التيار الوطني لما حمله أخيراً الموفد الفرنسي جان إيف لودريان، وهجوم بعض قيادات التيار ونوابه على فرنسا وموفدها، وبين النظرة المتغيّرة من جانب حزب الله الى الدور الفرنسي تبعاً لحرب غزة، تُعطى للعودة الفرنسية الى لبنان صورة مختلفة عمّا كانت عليه منذ المبادرة الفرنسية التي أعقبت انفجار المرفأ، فيما لم يقطع حزب الله الاتصالات مع باريس.منذ زيارة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون لبيروت، وانفتاح خطّ التواصل يبن الديبلوماسية الفرنسية وحزب الله، تحوّلت فرنسا في نظر معارضي الحزب الى طرف وليس وسيطاً محايداً. في الأشهر الطويلة التي أعقبت المبادرة وسقوطها، بقي التواصل مع حزب الله قائماً، ومعه ارتفعت في وجه باريس حدّة انتقادات أطراف المعارضة، وخصوصاً المسيحية التي كانت دائماً أقرب الى فرنسا، وظلّ رئيس حزب القوات اللبنانية سمير جعجع حتى الأيام الأخيرة ينتقد دورها ويصوّب عليه.
في المقابل، باتت الحركة الفرنسية أكثر قبولاً لدى الحزب وحلفائه، بعدما «اكتشف» وجهاً آخر لباريس التي تفتح أبوابها لعلاقة سويّة مع الطرف الشيعي، بخلاف سنوات ماضية من التباعد. وعزّز ذلك دفع في خلية الإليزيه لتحقيق استراتيجية قائمة على إحداث تبدّلات في العلاقة مع القوى التي تربطها علاقات تاريخية مع فرنسا.
في موازاة ذلك، ورغم الانتقادات التي كانت توجّهها دوائر فرنسية للتيار الوطني الحر، ومن ثم كلام لودريان نفسه ضد الطبقة السياسية في عزّ عهد الرئيس العماد ميشال عون، وتحميلها مسؤولية الانهيار والفساد، لم يخرج التيار عن سياق عام بأدبيات تستهدف باريس. ففرنسا هي التي راهنت وكسرت كل الإحراجات الدولية من أجل استقبال العماد عون في سفارتها، ثم على أرضها، وهي التي احتضنت كل المعارضين وقيادات التيار من بينهم، وسهّلت لهم أوضاعهم، وربطت علاقات متينة شخصيات سياسية فرنسية بعون والتيار. ورغم أن التيار عارض مرتين أيّ تسوية فرنسية لانتخاب رئيس تيار المردة سليمان فرنجية، إلا أنه لم يقطع مرة خطّ الرجعة معها ولم يستهدفها. لا بل إن باسيل حرص على زيارتها خلال جولة خارجية في إطار تنشيط الاتصالات الرئاسية. لذا، فإنّ ردّة الفعل غير المعهودة من جانب التيار، إبان زيارة لودريان لبيروت، أثارت امتعاضاً من سلوك جديد، وضعه التيار في إطار إملاءات خارجية، لكنه يعكس جانباً آخر من توتّر التيار نفسه، ويناقض كلّ ما مثّلته فرنسا له خلال سنوات طويلة. عدا عن أنه يقفل بذلك باباً أساسياً للتفاوض في مرحلة مقبلة تتعلق بالملف الرئاسي. فتسجيل نقطة «سيادية» في ملف التمديد لقائد الجيش ليس عملاً ديبلوماسياً بالمطلق. وما يقوم به حزب الله مثال على ذلك.
المعارضة لا تزال متريّثة في رهانها على متحوّل فرنسي في العلاقة مع حزب الله
فمع حرب غزة، أثارت المقاربة الفرنسية للحرب ولمفاعيل عملية حماس وارتداداتها الإقليمية والدولية، «نقزة» لدى حزب الله، من دون أن يثير ذلك ارتياحاً لدى معارضيه. فالتجربة مع المبادرات الفرنسية لم تصل في السنوات الأخيرة الى ما يؤمل منها. إلا أن زيارة لودريان والرسالة العلنية حول القرار 1701، أشاعت بعضاً من الارتياح. ففرنسا معنيّة بالقوات الدولية العاملة في الجنوب، ومشاركتها تعدّ من بين الأكبر (بين 600 و700 جندي)، وهي معنيّة بالعلاقة مع إسرائيل، ولا سيما في ضوء مقاربتها لما حصل في 7 تشرين الأول، وسعيها الى أن يكون لها دور حيوي وأساسي في رسم خريطة طريق ما بعد حرب غزة. وإذا حصل ذلك، فسيكون منعطفاً في العلاقة بين باريس وهذه القوى، التي لا تزال متريّثة في رهانها على متحوّل فرنسي في العلاقة مع حزب الله.
لذلك يأتي تنشيط اتصالات باريس في لبنان، بين مرحّب بعد جفاء، وبين حذر منها. وهنا يصبح للاتصالات مع حزب الله جانب آخر من الرواية السياسية. فالاتصالات السياسية والرسائل لم تنقطع بين الطرفين بالوسائل المتاحة، وليس المقصود فقط اللقاء الذي جمع لودريان برئيس كتلة الوفاء للمقاومة النائب محمد رعد. ورغم ملاحظات الحزب على طروحات فرنسية وعلى تحذيرات نقلت الى لبنان من مخاطر الردود الإسرائيلية، إلا أن الحزب لم يقفل باب الرسائل. فهذه القناة، على اختلاف النظرة الى دور فرنسا وأهميته، لا يفترض إقفالها بالمطلق بعد إيجابيات طبعت المرحلة السابقة، كما أنها تحمل أوجهاً كثيرة عن خلفيات الرسائل ومن وراءها.
وإذا كان الأمر يتعلّق بمفاوضات حول القرار 1701، فإن الحزب لم يتنصّل يوماً منه، ولم يخرج في خطابه السياسي عن تطبيقه، لكن ذلك ينفصل عن أيّ محاولة أخرى لتعديله أو إدخال موجبات أخرى عليه. وفي الحالتين، فإن مسار الاتصالات مع فرنسا أو عبرها قائم. ومن المبكر الحكم بأنها مقدّمة لمرحلة جديدة تتعلق بالمسار الرئاسي، طالما أنّ حزب الله لا يزال متريّثاً في دخول أيّ حوارات موسعة في الملفات العالقة، وما دامت حرب غزة مشتعلة. وما دامت اللجنة الخماسية قائمة، مع قنوات إيرانية مفتوحة، فإنّ خط باريس – الضاحية لا يزال سالكاً.