يتشابه المشهد الخطير اليوم في قطاع غزة من قتل واحتلال ومخطط إسرائيلي لتصفية قضية الشعب الفلسطيني، مع ذاك الذي حدث في لبنان العام 1982 حين كان المخطط لاحتلاله من جنوبه وصولا إلى العاصمة بيروت والتي كانت العاصمة العربية الثانية التي تُحتل بعد القدس.
قبل 41 عاما ونصف العام، أرادت حكومة اسرائيلية متطرفة بقيادة مناحيم بيغن وآرييل شارون خاصة، الخلاص نهائيا من “منظمة التحرير الفلسطينية” التي كانت تقوم بعمليات انطلاقا من الجنوب اللبناني في اتجاه شمالي الاراضي المحتلة. استغلت تلك الحكومة عملية مشبوهة لمحاولة اغتيال السفير الاسرائيلي في لندن، شلومو أرغوف، لتنفذ عملية برية مخططا لها قالت إنها لن تتعدى الـ 40 كيلومترا لحماية حدودها، لكن شارون مضى بقواته (إدعى بيغن أنه لم يكن على علم بمدى العملية) نحو بيروت لحصارها ومن ثم فرض رئيسا للجمهورية..
كان من المؤسف حينها ان الفصائل الفلسطينية انهارت في بضعة ايام رغم تسجيلها مقاومة بطولية في بعض المناطق، ثم صمدت في بيروت الغربية خلال حصارها الشهير ووراءها شعب آمن بقضيتها من دون اخفاء معاناته. وانتهى الحصار بهزيمة سياسية لمنظمة التحرير ولتيار لبناني وازن أقسم على مقاومة المحتل الذي دخل بيروت الغربية بعد اغتيال الرئيس بشير الجميل حين شهدت العاصمة واحدة من افظع المجازر في التاريخ، صبرا وشاتيلا.
اعتقد الاحتلال حينها انه نفذ مهمته بنجاح لكنها كانت ساعات حتى انطلقت عمليات المقاومة الوطنية التي اضطرته للانسحاب تحت ضرباتها وكان شعاره “يا اهالي بيروت لا تطلقوا النار نحن منسحبون..”. كان ذلك بعد بضعة ايام على احتلال غربي العاصمة وكانت المفارقة ان بيروت تحولت من المدينة المهزومة، الى عنوان لنقطة تحول ليس في التاريخ اللبناني فقط بل في تاريخ إسرائيل كدولة. فهذا الجيش “الذي لا يقهر” تحول الى مصيدة لضربات المقاومة، الشعبية والوطنية من يمين ويسار ومقاومة إسلامية وغيرها، وكان التحرير الاول والاكبر في العام 1985، ليحتفظ الاحتلال بشريط حدودي بعشرة في المئة من الاراضي اللبنانية، سقط بدوره في ايدي المقاومين مع تحرير العام 2000.
حكومة نتنياهو بعيدة عن السقوط
إنه سرد سريع لمقارنة تلك السنوات مع ما يخطط له الاحتلال اليوم. فالهدف نفسه من ضرب لمقاومة الشعب الفلسطيني بل الذهاب الى محاولة تصفية القضية بروحها وهي اللاجئين. لكن الظروف مختلفة، الفلسطينيون في لبنان لم يكونوا جزءا من نسيج الشعب اللبناني، كما ان مقاومتهم لم تكن على غرار ما هي اليوم سواء لناحية النوعية او العقيدة، مثلما انهم اليوم يقاتلون على ارضهم وهم تعلموا ان النكبة لا يمكن ان ترتكب مرتين ولن يكون التعويل على غيرهم..
لذلك فإن مقاومة الغزيين ستكون مستميتة، وحتى في حال تمكن الاسرائيلي من احتلال غزة بالكامل، فإن التاريخ سيستعاد كما في بيروت 1982 حين تحولت الارض جحيما تحت اقدام الاحتلال.
يعرف الاسرائيلي تماما هذا الأمر، ولذلك فهو يريد اعادة عقارب الساعة الى الوراء اكثر من 30 عاما وجعل غزة تحت ادارة مدنية، مُسقطا بذلك الشريك الفلسطيني في اتفاق أوسلو لا بل مسقطا التسوية برمتها التي قبلها العرب على مضض.
قبل الولوج في ما يمكن ان يكون عليه مشهد ما بعد الحرب، وهو مشهد طويل بطبيعة الحال ولا أفق منظورا له، يجب الانتباه الى ان المخطط الاسرائيلي قد يتخذ مشهدا مغايرا لعملية الغزو البري. أي عمليات عسكرية امنية مركزة ومكثفة برية وجوية، مع محاولة احتلال مستدام لشريط يفصل غزة عن غلافها لمنع التسلل الفلسطيني الى اراضي العام 1948.
هنا ايضا ثمة تشابه مع ما ارتكبه الاحتلال من خطأ في لبنان. فهذا الشريط سيكون مشابها للشريط الحدودي في لبنان مع فارق ان لا ميليشيا موالية لإسرائيل عليه. مع التذكير بأن الشريط اللبناني لم يمنع يوما عمليات المقاومين في لبنان ولا صواريخهم، وبات اليوم ماضيا من حيث تطور العلوم العسكرية التي لا تقف امامها الجغرافيا وباتت تعتمد على التقدم العلمي والتكنولوجي، ناهيك عن عقيدة مقاومة لم يفهمها الإسرائيلي حتى الساعة.
في موازاة هذا الشريط، ما زالت حكومة بنيامين نتنياهو تصر على التخلص من “حماس” واعادة “المحتجزين”. الهدفان اللذان وضعهما الاخير وحكومته. في مقابل شرط “حماس” وقف اطلاق النار قبل الشروع في مفاوضات اطلاق الرهائن وطبعا انهاء الاحتلال والحصار، اي اعادة الامور الى ما كانت عليه قبل السابع من تشرين الاول الماضي.
وبين هذا وذاك ينشط الوسطاء من دون تحقيق انجازات تذكر. فالفلسطينيون لن يخدعوا بهدن يطلقون معها الرهائن متخلين عن ورقتهم الثمينة في المفاوضات. ولذلك يقدم الاسرائيلي اغراءات في نوعية اسماء السجناء لديه ومنهم المحكومين بمؤبدات وهي اسماء ذات وزن في العمل الفلسطيني المقاوم. ومعهم اطلاق مرضى ونساء وأطفال.
يعد عامل الزمن التحدي الاهم للإسرائيلي، وهو تراجع، نتيجة الميدان والخسائر فيه، عن اعلان هزيمة “حماس” وبات يعلن انه يريد ضربها وجعلها اعجز عن تكرار فعلتها. وطبعا لا انجاز في ملف المحتجزين لدى الحركة وغيرها، وسط عدم يقين تجاه ما سيكون عليه المشهد مستقبلاً..
لكن من المبكر الذهاب الى ان الحرب سوف تضع أوزارها. فهي مع قرب دخولها في شهرها الرابع ما زالت تشهد وتيرة وحشية مرتفعة مع اصرار اسرائيلي على المتابعة من دون توقف ولذلك اسبابه الجوهرية. فعلى الصعيد الاسرائيلي الداخلي لم يلق نتنياهو حركة احتجاج قوية قادرة على التأثير عليه وبما يقلب رأي المجتمع الداخلي الذي يرى ان موضوع “حماس” وغزة يجب معالجته. ثم ان حركة اهالي الرهائن تقتصر على مصيرهم وليست قلقة على الغزيين، من دون نسيان الحركة المقابلة التي تطالب بالاستمرار في الحرب حتى على حساب ارواح المحتجزين وذلك في شكل علني ووقح وهي تلقى صدى داخل مجلس الحرب. من هنا فإن حكومة نتنياهو بعيدة عن الانفراط.
تقديرات فلسطينية
يحضر سيناريو فلسطيني بدوام الحرب حتى الربيع المقبل على اقل تقدير مع تحويل غزة الى مقاطعات امنية، ورغم الخسائر فإن حكومة نتنياهو تنظر بإيجابية إلى التقدم البري ولا تلتفت إلى عامل الوقت. هو سيناريو سلبي يسقط نفسه على الضفة الغربية التي ستتكثف فيها المداهمات اليومية، ومع وجود 35 ألف قطعة سلاح شمالي الضفة فقط في يد المستوطنين، قد يكون سيناريو التهجير قائما في بعض المناطق والقرى .. وربما الأسوا لم يأت بعد.
يتوازى ذلك مع تصعيد على الجبهة اللبنانية بعد امتصاص إسرائيل للصدمة، وحيث باتت الخطط جاهزة وتنتظر الموافقة لتصبح الحرب الكبيرة مسألة وقت.
في مقابل هذا السيناريو، ثمة سيناريو أكثر تفاؤلا. فحكومة الاحتلال غير قادرة على الاستمرار الى ما لا نهاية في عدوانها على الشعب الفلسطيني. فالكلفة تزداد من ناحية، والجدوى تتناقص من ناحية أخرى. ولدى البعض من خارج “حماس” رؤية بأن نتنياهو يريد ايقاف الحرب لكن عبر حفظ ماء وجهه. بمعنى آخر ايقاف الحرب بـ”وجهها الجميل المنتصر” عبر تحقيق إنجازات وليس بصورة مخزية.
لذا فهو يستجدي تهدئة انسانية ويرسل إلى “حماس” طالبا تهدئة انسانية مبديا استعدادا لإيطال أمد تلك الهدنة لأكثر من اسبوع وحتى اسبوعين وثلاثة، والذهاب إلى ابعد من ذلك، لكن في مقابل إفراج عن الاسرى لدى الحركة.
ويسخر هؤلاء من مقولة المرحلة التالية من الحرب ويسألون “عن أية مراحل يتحدث نتنياهو؟”. فالحرب لا تتحرك على هذا النحو وحكومة الاحتلال تتحرك انفعاليا وعبر الحقد من دون خطة واضحة “لما بعد”، ودلائل هذا الامر واضحة في الميدان حيث الإرباك الاسرائيلي الذي يقتحم مناطق معينة ثم ينسحب منها قبل غزوها من جديد، في الوقت الذي يقتحم فجأة مناطق لم تكن على جدول اعماله كما يتراجع كثيرا في مناطق أخرى.. وقس على ذلك في العشوائية وكل ذلك نتيجة مقاومته في الميدان.
لذا فمقولة المراحل موجهة إلى الداخل الاسرائيلي للتحضير في المستقبل لإنهاء الحرب وسط ضغط أميركي ومن الوسطاء ومع تصلب “حماس” في المفاوضات وتسجيل مجازر جديدة كل يوم وانقلاب هائل في الرأي العام العالمي. يراهن هؤلاء على عدم تحمل الجيش الاسرائيلي لخسائر جنوده الذين “يتم اصطيادهم زيّ البط” ما لن يتحمله ايضا اهالي هؤلاء الجنود. واذا اضيف هذا العامل إلى العوامل سابقة الذكر يمكن الحديث عن تقدم في المفاوضات يثمر بعدها.
مشهد ما بعد الحرب
في كل الأحوال، هو مؤشر جديد على عدم اتعاظ الاحتلال الاسرائيلي من التاريخ.
حتى لو أعاد احتلال كامل غزة فإن نقطة التحول في لبنان سوف تتكرر في تلك الارض. فالقضية لا تتعلق بـ”حماس” بقدر تعلقها بشعب فلسطيني تحت الاحتلال وبإسقاط الاحتلال للمفاوض الفلسطيني الاكثر اعتدالا من “حماس”. ولن تقوى إسرائيل على السيطرة على غزة وستستجدي الخروج كما استجدته في بيروت.
أما الخطوات الاولى بعد الحرب، سواء انتهت قريبا ام بعيدا، فستكون حسب سيناريو فلسطيني وقف النار وانسحاب الاحتلال وإنهاء الحصار ومن ثم اتفاق المجتمع الدولي والعربي على تمويل إعادة الاعمار، وفلسطينيا، اتفاق الشعب الفلسطيني على طبيعة حكم ما بعد الحرب.
أما مسار التسوية فسيكون شائكا، ومع ذهاب نتنياهو ستبحث الادارة الاميركية عن تسوية مقبولة تستحضر حل الدولتين تكون ذات عمق عربي تدمج “حماس” و”الجهاد الإسلامي” في “منظمة التحرير الفلسطينية” والمجلس الوطني ثم إيجاد صيغة حكومة وحدة وطنية..
لكن كل ذلك سيتطلب وقتاً وسط غموض لمراحل الحرب كما لطبيعة المشهد بعدها، وهو ما يزيده قتامة.