كأنّها «وحدة ساحاتٍ» في الاستهدافات والاختراقات الأمنية الأخطر، في ما يشبه «الحرب غير التقليدية» التي اشتعلت على تخوم بركان غزة الذي يُنْذِر تَمَدُّد حممه، من دمشق (في 25 كانون الأول)، مروراً بالضاحية الجنوبية لبيروت (الثلاثاء)، وصولاً إلى كرمان الإيرانية (الأربعاء) بأن المنطقة برمّتها باتت في فوهة الانفجار الكبير.
فبينما كان «حَبْسُ الأنفاس» على أشدّه حيال طبيعة ونوعية ومكان وزمان الردّ «الرادع» من «حزب الله» على «الإنزال» الأمني خلْف كل الخطوط الحمر الذي شكّله خرْقُ إسرائيل عمق الضاحية الجنوبية واغتيالها بضربةٍ جويةٍ موجّهة أحد أبرز «العقول الأمنية» لحركة «حماس» ومهندسي «طوفان الأقصى» صالح العاروري والقيادييْن في «كتائب القسام» سمير فندي (أبو عامر) وعزام الأقرع (أبو عمار)، إضافةً إلى 4 من كوادر الحركة (بينهم 3 لبنانيين)، بدا أن المنطقةَ «ربطتْ الأحزمةَ» مع «الهجوم الإرهابي» الذي استهدفَ مَسيرات كانت تشارك في مراسم إحياء الذكرى الرابعة لاغتيال الجنرال قاسم سليماني في منطقة كرمان وباغتَها تفجيرٌ متعدّد العبوات قرب المقبرة حيث ضريح القائد السابق لفيلق القدس، ما أدى إلى مقتل أكثر من 190 وجرْح عشرات آخَرين.
وإذا كان وقوف إسرائيل وراء اغتيال العاروري أمراً أكيداً، رغم عدم تبنّيه من تل أبيب إلا في شكل غير مباشر وسط إعلانِ رئيس «الموساد» إن «كل مَن كانت له علاقة بأحداث 7 تشرين الأول مصيره الموت»، فإن الأنظارَ شخصت على مَن «ضغط على زناد» ما اعتُبر بمثابة «اغتيال ثانٍ» لسليماني، الذي كان سقط في بغداد بقصف صاروخي أميركي في 3 كانون الثاني 2020، وهل ستوجَّه طهران أصابع الاتهام لإسرائيل أم لمجموعاتٍ أصولية إرهابية، وسط اعتقادٍ بأنّ من الصعوبة بمكان الفصل بين أضلع «مثلث الموت» الذي ارتسم تباعاً منذ 25 كانون الأول باغتيال القيادي في الحرس الثوري الإيراني، رفيق درب سليماني، رضى موسوي ثم تصفية العاروري في ضاحية «حزب الله»، وليس انتهاءً بتفجيرات كرمان.
ويشي هذا المسار التصعيدي الأخطر بأن رقعةَ التوتر الأعلى تتسع ومعها الاحتمالاتُ المفتوحة على شتى السيناريوات، في ظلّ اعتبار أوساط مطلعة أن حقبةً جديدةً بالكامل دُشنتْ – ربْطاً بالمرحلة الثالثة من حرب غزة – وكان الأبرز في جولتها الأولى ما يشبه «الحزام الناري» الذي يلتفّ حول إيران، التي استُهدفت مباشرةً مرة في دمشق وأخرى على أرضها، وثالثة في «ذراعها الأقوى» أي «حزب الله» الذي تلقى ضربةً في معقله باغتيال العاروري الذي بدا «الوصول إليه» وكأنه «إصابة لعصفورين بحجر»: «حماس» بشطب أحد «المطلوبين رقم واحد» على «لائحة الإعدام» التي تفاخر بها إسرائيل، والحزب الذي اهتزّت بـ «زلزال الضاحية» معادلاتُ الردع التي كان وَضَعهَا واعتقد الجميعُ أنها بمثابة «حزامِ أمانٍ» لقادته كما لـ «صويفه» من قادة فصائل فلسطينية وغير فلسطينية تحتضنها «عاصمته» وقامت على: «ممنوع الاغتيالات لشخصيات من أي جنسية» و«قصف الضاحية خط أحمر».
وقبل أن تجفّ دماءُ ضحايا مذبحة كرمان، لم تتأخّر القراءاتُ بين سطور الاعتداءات المتوالية على عموم ساحات «محور الممانعة» في ربْطها بـ«شيفرةٍ» لم يَعُد من الصعب فكّها وتتمثّل في إصرارٍ اسرائيلي على استدراج إيران و«حزب الله» إلى «محرقة غزة» فتتوحّد الساحات «بالنار» وتالياً بالحلول التي لا بدّ أن تشكل «حمّالةً» تخرج على متنها المنطقة من وضعية الحرب إلى تسويات، تسعى تل أبيب لإرساء أرضيّتها في القطاع المسفوك الدم على قواعد تهجيرية أو تدميرية تجعله «غير قابل للحياة»، وفي جنوب لبنان تحت لافتة القرار 1701، والأرجح مع طهران بما «ينزع أنيابها» التي تَعتبر حكومة بنيامين نتانياهو أنها غُرزت في غلاف غزة يوم 7 تشرين الأول وأنها تحاصرها على جبهتها الشمالية.
وعلى وقع إعلان وزير الداخلية الإيرانية أحمد وحيدي أنّ «انفجاري كرمان مؤامرة جديدة سترد قواتنا عليها بشكل ساحق وعاجل»، اعتبرت الأوساط المطلعة أن أي تصويبٍ من طهران بالاسم على «الفاعل» وما يرتّبه ذلك من تحديدٍ لآفاق الردّ ودائرته، سيبقى محكوماً بكيفية المواءمة بين قرارٍ برفْض الانجرار إلى حربٍ شاملة تكون فيها إيران طرفاً مباشراً وبين الحاجة إلى وقف مسار تجرؤ متمادٍ عليها ازداد منسوبه منذ 25 ديسمبر وصولاً إلى مجزرة الأمس وقبْلها «الهبوط» في عرين «حزب الله» حليفها الأقوى ونقطة الارتكاز لمحور الممانعة وفيه.
وهذا الاعتبار نفسه، يَحْكم مقاربة «حزب الله» لِما بعد اغتيال العاروري الذي يُخشى أنه بات مترابطاً مع تشظياتِ هجوم كرمان، وهو ما كان عبّر عنه بيان الحرس الثوري تنديداً باغتيال الرجل القوي «مهندس وحدة الساحات»، قبل الجريمة المروّعة في محيط ضريح سليماني، حين أشار إلى «أن الصبر الإستراتيجي للمقاومة وحزب الله، تحت تأثير الآمال والأحلام المشؤومة للكيان الصهيوني وداعميه، لن يَخرج عن فلك العقلانية والمنطق والنظر إلى متطلبات محتلي القدس ومغتصبي فلسطين»، معتبراً «أن اغتيال العاروري جريمة لن تجعل حسابات المقاومة تقع في خطأ إستراتيجي».
وفي حين اثار هذا الموقف – الذي اعتُبر بمثابة «وضع سقف علني» لحدود ردّ «حزب الله» على استهداف العاروري في «حضنه» وأقرب إلى «تغطية» مسبقة لِما سيعلنه نصرالله بوصفه «خياراً إستراتيجياً» – علامات استفهام حول إذا كانت طهران في ذاتها ستلجأ إلى «الصبر الاستراتيجي» بإزاء اعتداء كرمان، وهو ما سيؤشر إليه بدايةً لمَن ستحمّل مسؤولية الهجوم، فإنّ الأوساطَ المطلعة عبّرت عن مخاوف كبرى من الإمعان في حشْر إيران وحلفائها في ملعب النار الذي افتتحته «حماس» بـ «طوفان الأقصى» ولا سيما في ضوء المعاني الـ ما فوق عادية لـ «الجِراح» التي تصيب إيران مباشرة وتتوالى عليها، هي التي سبق ان فاخرتْ بأنها أحكمت النفوذ على 4 عواصم عربية، ناهيك عن دلالاتٍ خطيرة جداً أطلّت من خلف غبار اغتيال العاروري.
ولعلّ أبرز هذه الدلالات تسريب وسائل إعلام إسرائيلية أن عمليةَ الضاحية جاءت عشية لقاء كان مقرَّراً أمس بين العاروري ونصرالله، بما أوحى أن تل أبيب، التي لا يمكن تصوُّر أن تكون نجحت في هذا الاغتيال من دون خرقٍ تقني وبشري، كان بإمكانها تأخير «التنفيذ» حتى ساعة اللقاء وتالياً وضْع الأمين العام لـ «حزب الله» نفسه في دائرة الخطر الشديد، وخصوصاً في ضوء ما كُشف عن أن الشقة التي استُهدف فيها العاروري أول من أمس وتحديداً الطابق الثاني أصيبت بصواريخ ذكية GBU موجّهة بالليزر خارقة للتحصينات (أسقف الاسمنت المُسلّح) وفق ما أوردتْ «قناة الجديد» التي أشارت أيضاً إلى أن العملية نُفذت بطائرة حربيّة وليس بمسيّرة.
وإذ استوجب المشهد المتفجّر من الضاحية الجنوبية إلى كرمان رصداً دقيقاً لاتصالات عبر «الهواتف الحمر» في محاولةٍ لمنْع انزلاق المنطقة إلى الصِدام المدمّر الذي لا تريده الولايات المتحدة التي أفادت تقارير أن إسرائيل لم تبلغها بعملية اغتيال العاروري إلا خلال تنفيذها، فإن مجموعة مؤشرات كانت لاحت بعيد هذا الاغتيال وعكستْ القلق الدولي المتعاظم من «صب الزيت على نار» حرب غزة وإمكان أن تخرج الأمور عن السيطرة بقرار كبير أو خطأ كبير.