لمنطقة برمّتها كأنها في «حرب مشاغَلةٍ» متبادَلة ومتعدّدة الساحة ارتفعتْ معها فرصُ الانزلاقِ نحو حربٍ إقليمية كأنها واقعة غداً… وربما لن تقع أبداً.
هكذا وصفتْ أوساطٌ واسعة الاطلاع في بيروت المشهدَ الذي يزدادُ سخونةً على امتدادِ ساحاتِ «محورِ الممانعة» التي ارتسمَ بينها في الأيام العشرة الأخيرة مسارُ وحدةٍ من نوع آخر عبّر عنها ارتدادُ «فتائل التفجير» التي أشعلتْها تباعاً إلى داخلها، بحيث انتقلت كلّ هذه الساحات ودفعة واحدة وللمرة الأولى منذ «طوفان الأقصى» إلى وضعيةٍ دفاعيةٍ بدا معها أن ما أرادتْه «درعاً رادعاً»، ولو بالحدّ الأدنى، لاسرائيل عن الاستفراد بغزة، تحوّل صاعقاً التفّ حول المحور الذي تقوده إيران والذي بات يتعاطى مع وقائع غير مسبوقة في ظلّ تبديل خصومه وأعدائه «قواعد اللعب» معه و«استعارة» بعضٍ من تكتيكاته التي جعلتْه لفترة طويلة في وضعية win- win situation.
ولم يكن عابراً التصعيدُ التصاعدي في ضرْب كل من اسرائيل والولايات المتحدة في عمق محور الممانعة الذي لفّ ساحاته كلها منذ 25 كانون الأول الماضي خصوصاً «قوس نار» ودخانٍ بدا مدجَّجاً بالرسائل بأن عدمَ الرغبةِ في التورط بحربٍ شاملة لا يعني تساهلاً في ترْك طهران تفرض وقائعَ في الميدان تعدّل في «الميزان» في الطريق إلى مرحلةِ تسوياتٍ يُعتقد أنها ستكون «متعددة الرأس» وتشمل أكثر من جبهةٍ اشتعلتْ بعد 7 أكتوبر أو ظهّرت مخاطر كبيرة ذات طابع جيو – استراتيجي.
ولم ينفكّ «الأحمر» يضيء تدريجاً اللوحة البالغة التعقيد في المنطقة… من اغتيال اسرائيل القيادي في الحرس الثوري الإيراني رضي موسوي في دمشق، مروراً بإغراق مروحيات أميركية 3 زوارق تابعة للحوثيين مع طواقمها جنوب البحر الأحمر، و«اصطياد» تل ابيب «مهندس وحدة الساحات وطوفان الأقصى» الرجل القوي في «حماس» صالح العاروري في قلب الضاحية الجنوبية لبيروت معقل حزب الله، وصولاً إلى التفجير الدموي المزدوج في كرمان قرب ضريح الجنرال قاسم سليماني والذي وجّهت طهران أصابع الاتهام فيه لاسرائيل، وليس انتهاءً بالضربة الموجعة التي سددتها واشنطن أمس (في بغداد) لحركة النجباء، أحد أبرز فصائل «الحشد الشعبي» في العراق وأدّت إلى مقتل معاون قائد عمليات حزام بغداد مشتاق طالب السعيدي (الملقب بـ أبو تقوى) ومرافقه وذلك رداً على العمليات التي تستهدف قواعد أميركية في كل من بلاد الرافدين وسورية.
ومن خلف كل هذه «التوترات النقّالة» التي كادت أن تحجب غبار الحرب المستعرة في غزة ومحاولات تل أبيب «وأد» أي حل سياسي للقطاع الذي تضعه أمام معادلة إما أن «يُدفن حياً» بمَن فيه وإما التهجير إلى «وطن بديل»، ترى الأوساط المطلعة نفسها أن «المثلث» الرئيسي المعني بالمواجهات المتمددة، أي الولايات المتحدة ومعها اسرائيل، رغم التباينات بين الطرفين، وإيران يعرف كل منهم نقاط قوة وضعف الآخر وبات يلعب عليها و«على المكشوف»، خصوصاً واشنطن وتل أبيب اللتين بدّلتا تكتيك المواجهة تحت عنوان «لا تسيئوا التقدير أو الحساب».
وفي رأي الأوساط أن هناك ثوابت كانت ارتسمت منذ بداية «طوفان الأقصى» وتَرَسَّخَ قسم آخر منها في الفترة الأخيرة، وقوامه أن الولايات المتحدة لا تريد حرباً واسعة، وأن إيران لا ترغب في مواجهة مباشرة مع أميركا ولا في أن تضع نفسها «تحت المقصلة نفسها» مع «حماس»، وأن تل أبيب تفضّل حلولاً «على البارد» مع «حزب الله» ومن خلفه إيران في ما خص جبهتها الشمالية مع إظهار جهوزية لفتْح حربٍ شاملة.
واعتبرت الأوساط أنه بعدما بدت ساحات المشاغَلة متروكة لمحور «الممانعة» في كل من لبنان والعراق وسورية واليمن، بدأت الولايات المتحدة واسرائيل، كلٌّ لاعتباراته التي تتقاطع وتتباعد في الوقت نفسه، باستثمار قرار طهران باعتماد «الصبر الاستراتيجي» وعدم الانجرار إلى صِدام مع واشنطن أو الالتحاق بـ «المحرقة» في غزة وكشْفها ومعها «حزب الله» أن اسرائيل تسعى لتوريطهما في الحرب عبر استفزازات ذات طبيعة أمنية أو عسكرية، وذلك بزيادة ما يمكن وصفه بـ «ضربات تحت الحزام»، إما تُخْرِج إيران أو الحزب عن طورهما فيقعان «في الفخ» وإما «يتجرعان السمّ» تدريجاً فتتآكل قوة ردعهما وتُسجَّل في مرماهما نقاطاً ثمينة.
ومن هنا يمكن تفسير استهداف موسوي في دمشق، ثم العاروري في الضاحية الجنوبية، وصولاً إلى مذبحة كرمان وفق الاتهامات الإيرانية والتي وضعت طهران نفسها أمام امتحان كيفية إدارة التجرؤ عليها في عقر دارها، في حين جاءت الاندفاعة الأميركية المزدوجة بوجه ذراعيْ طهران في اليمن والعراق في سياق تأكيد أن «للعب حدوداً»، ما يطرح السؤال الكبير؟ هل تعلن إيران «أن للصبر حدوداً»؟
الجواب عن هذا السؤال بدا صعباً وفق الأوساط نفسها، رغم الاقتناع بأن الحرب الكبرى ما زالت تحول دونها واقعية إيرانية وثبات أميركي على رفْض تشظي الصراع إلى مواجهة إقليمية واسعة، رغم الخشية الدائمة من أن أي سوء حساب قد يجرّ إلى الانفجار أو أي «سوء نية» اسرائيلية بافتعال حدَثٍ من النوع الذي لا يعود ممكناً إدارة الظهر له أو التحكّم برد الفعل عليه.
واعتُبرت مواقف الأمين العام لـ «حزب الله» السيد حسن نصرالله أول من أمس أقرب إلى «انتظامٍ» تحت سقف الاستراتيجية الإيرانية في «الصبر والعقلانية» هو الذي أكد أن اغتيال العاروري في الضاحية (شُيع أمس في الطريق الجديدة ووري في مخيم شاتيلا) لن يمرّ من دون عقاب مشدداً على أنه باقٍ على وعْده الذي كان قَطَعه بأن أيّ اغتيالٍ في لبنان سيُقابل بردّ «رغم ان هذا الوعد لم يحصل في مرحلة حرب وتبدُّلِ معادلات»، ولكنه ترك «الثأر» مفتوحاً في الزمان والمكان والطبيعة، راهناً الخروج عن الضوابط التي تحكم الجبهة الجنوبية حتى الآن بمبادرة اسرائيل الى العدوان على لبنان «وعندها ستندم».
«اللكمات القاسية»
وحتى «حزب الله» بدا أنه يتلقى اللكمات القاسية تحت سقف تفادي الانزلاق الى حربٍ تحدد اسرائيل مكانها وزمانها، وهو كان خسر في الساعات الماضية 10 من عناصره بينها مسؤول منطقة الناقورة حسين يزبك الذي قضى مع 3 آخرين في غارة على منزل، وهو يمضي في الردّ من ضمن مقتضيات المشاغَلة المفتوحة منذ 8 تشرين الأول وإن مع الارتقاء بعملياته بما يتناسب مع التصعيد الاسرائيلي الذي تواصل أمس غارت مكثّفة على البلدات الجنوبية استهدفت منازل وأحياء سكنية، وإحداها طالت «حديقة إيران» في مارون الراس، وهي النقطة الحدودية المحاذية مباشرة للمستوطنات الإسرائيلية، إلى جانب قصف مدفعي مدمر.
وفيما رد «حزب الله» بعمليات ضد أهداف ومواقع اسرائيلية استخدم فيها صواريخ «بركان» برز إعلانه «ان قوّة القنّاصة استهدفت التجهيزات التجسّسية في موقع (مسكاف عام) وأصابتها بدقّة ما أدّى إلى تدميرها بشكل كامل».
جولات ديبلوماسية… وتحذيرات
وفيما كانت الخارجية الأميركية تعلن أنّ الوزير أنتوني بلينكن اتفق مع نظيرته الفرنسية كاترين كولونا خلال اتصال هاتفي «على السعي إلى اتخاذ خطوات لتجنيب توسّع الحرب في الشرق الأوسط بعد ضربات في لبنان وإيران» وأن البحث مع كولونا تناول «أهمية التدابير لمنع توسع النزاع في غزة، وتجنُّب التصعيد في لبنان وإيران»، برز ما نقله موقع «أكسيوس» عن أن «وزير الدفاع الإسرائيلي يوآف غالانت أكد للمبعوث الأميركي آموس هوكشتاين أن فرص تخفيف التوتر مع لبنان ديبلوماسياً ضئيلة» وأن الوقت ينفذ أمام فرصة الحل السياسي.
وفي موازاة ذلك، كان وزير الخارجية اللبناني عبدالله بوحبيب يجتمع مع مستشار الرئيس الاميركي جو بايدن لشؤون الشرق الاوسط بريت ماكغورك في البيت الأبيض، حيث تم البحث في «ضرورة الاستمرار بالجهود الديبلوماسية الأميركية الرامية الى تحييد لبنان عن الحرب في غزة».
وأكد الطرفان «اهمية نجاح مهمة المبعوث الرئاسي آموس هوكشتين من أجل وقف التصعيد في لبنان والمنطقة»، كما بحثا «في السبل التي يمكن ان تؤدي الى السلام في المنطقة، وأكد بوحبيب ان الممر الوحيد لذلك هو السلام مع الفلسطينيين بالدرجة الاولى».
وفي بيروت كان رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي يلتقي قائد قوات الأمم المتحدة العاملة في جنوب لبنان«اليونيفيل» حيث «تم البحث في تطبيق القرار 1701 والخروق الإسرائيلية للسيادة اللبنانية». وسجَّل لبنان اعتراضه لـ«اليونيفيل» على هذا الموضوع. كما تناول اللقاء التحضيرات للتقرير المرتقب صدوره عن مجلس الامن والذي سيتطرّق للخروق التي تطول القرار 1701.
وخلال الاجتماع، جدَّد ميقاتي إدانته الاعتداءات الاسرائيلية على لبنان والانتهاكات المتمادية للسيادة اللبنانية. وطالب برفع الصوت في الأمم المتحدة رفضاً للانتهاكات الاسرائيلية للخطّ الأزرق وللقرار 1701، مجدّداً التزام لبنان الدائم بالقرار الأممي ومندرجاته.
وعلى وقع هذه التطورات، طلبت دول أوروبية بالإضافة إلى أميركا وكندا من رعاياها مغادرة لبنان فوراً على خلفية ارتفاع حدة التوترات جنوباً.
وأصدرت كل من بريطانيا والسويد وألمانيا والدنمارك، بيانات طالبت مواطنيها بعدم السفر إلى لبنان ومغادرته فوراً للمتواجدين فيه.