وأصبح حسن يوسف العاصمي شهيداً. هو الرقيبُ الأوّل في فوج حرس بيروت منذ أربعة عشر عاماً لقي حتفه مساء الخميس، في الحادي عشر من كانون الثاني هذا، على غفلة. قتله شاب إذا قلنا جنسيته سيقولون: عنصريين. هو شاب سوري قتل الرقيب الأول وأطلق النار على عامل مصري وفرّ. فهل انتهت القصة هنا أم يفترض أن تبدأ من هنا؟
في كُتيّبات وُضعت على صينية في دار أهل الشهيد فاتحة ودعاء ونصيحة مهمة: الموت حقّ والله لا يستحي من الحقّ. فهنيئاً لمن التزم الواجب وانتهى عن الحرام قبل أن يرحل عن هذه الدنيا الفانية الزائلة. يقلب المعزّون في الكتيبات وهم يشربون القهوة عن روح القتيل/الضحية/الشهيد حسن. على بعد مسافة عشر دقائق – في السيارة – عجقة كبيرة أمام جامع الإمام علي. شباب الطريق الجديدة كلهم وصلوا باكراً. المنطقة «عم تغلي». منطقة الجميزة – الأشرفية – حيث حصل الحادث أيضاً «عم تغلي». نواب المنطقة عقدوا مؤتمراً صحافياً. بين الأشرفية وبين طريق الجديدة الهمّ مشترك: ماذا بعد؟ كيف ستواجه المناطق الوجود الغريب المسلح؟
وصل خبر للتوّ: محافظ بيروت مروان عبود قال «إن شعبة المعلومات ألقت القبض على مطلق النار». لم يكن الخبر دقيقاً. لكن في المساء القت «المعلومات» القبض على القاتل في جونيه. فلنسأل غسان حاصباني- إبن الأشرفية – الذي يبعد مكتبه عن مكان الحادث دقيقتين سيراً عما سيلي؟ يجيب: «الأشرفيه خط أحمر. لا مزاح معها. الفلتان الأمني ممنوع. الأشرفية ستكون البداية وبيروت كلها يفترض أن تكون في أمان». لكن، هل سيكتفي حاصباني وزملاؤه بالكلام؟ ماذا عن الخطوات المرتقبة؟ يجيب: «بدل أن يكون الحرس البلدي وحده في المرصاد، يجب أن يكون الأمن من مهام عناصر قوى الأمن الداخلي وأمن الدولة. يجب إجراء مداهمات بحثاً عن تجار المخدرات. ثمة محلان في المنطقة يبيعان المخدرات. المطلوب إجراءات حاسمة في الموضوع. وما حصل أول البارحة لم يكن صدفة فالقاتل كان بلا شك يتجه لتسليم المخدرات لذلك يحمل السلاح واستشرس في الهروب من دورية حرس بيروت».
الشهيد الضحية
حرّاس غير مسلّحين
المفارقة أن الحادث حصل في المكان نفسه، في منطقة الجميزة، التي طالما طالب نواب بيروت بألّا تتحول الى رصيف يستقبل ركاب الدراجات والساهرين. فهل تتصورون ماذا كان سيحصل لو كان هناك زحمة ساهرين؟ المنطقة مزدحمة جداً وهناك بحسب حاصباني «مطاعم واكتظاظ سكاني ونازحون غير شرعيين وشبه مستحيل أن تلقى المهمة الأمنية على حراس بلدية بيروت الذين لا يحملون أصلا أي سلاح للدفاع عن أنفسهم حتى. فهل المطلوب من الأهالي أنفسهم حمل السلاح والدفاع عن انفسهم؟ فلتتولَ الجهات الأمنية المهمة والمزاح في الموضوع غير مقبول». التساهل أيضاً ممنوع. نقف أمام جامع الإمام علي متابعين مراسم الصلاة والجنازة. نفكر في الضحية حسن الذي كان البارحة يضجّ بالحياة ويفكر وربما يحلم. هو من مواليد العام 1974 ويعمل باندفاعة كبيرة في فوج حرس بيروت. العقيد الركن علي صبرا هو قائد فوج حرس بيروت. مكث طوال الليل في مستشفى اوتيل ديو يتابع قضية حسن. نراه من بعيد حزيناً. لم يمت حسن فوراً بل بعد نحو ساعة من إختراق رصاصة ظهره أطلقها المجرم من مسدس كان يُخفيه تحت سرواله.
كانت دورية حرس بيروت مشكلة من ثلاثة عناصر: حسن وزميلاه. حاول حسن أن يهرب الى محل ثياب في المكان لكن الرصاصة سبقته. زميله رمى نفسه أرضاً وراح يقول الفاتحة. فلا سلاح بيد العناصر لمواجهة أي عمل أمني. فلماذا يُزج هؤلاء بمهماتٍ ليسوا قادرين على القيام بها؟ سؤالٌ يطرحونه هم ويتداولونه وعلامات القهر بادية عليهم. إنتهت صلاة الجمعة وشُيّع حسن وبدأ التكبير: الله أكبر الله أكبر. وخرج الضحية في صندوق خشبي مرفوعاً على الأكف. سيارات الإطفاء والحرس مزينة بالأكاليل البيضاء. والناس يمشون – تحت المطر – كما الروبوت، غير مدركين لا ما حصل ولا ما قد يحصل بعد. فما يحصل أصبح أكبر من قدرة البشر على الفهم والإستيعاب.
مؤتمر صحافي لنواب بيروت الأولى في مكتب محافظ بيروت (فضل عيتاني)
حرقة الأهل والأولاد
في منزل والد حسن تستقبل النسوة المعزين. اللون الأسود طغى فجأة على تفاصيل البيت. نصعد السلالم على العتمة فالكهرباء مقطوعة ونور الشمس أيضا. أرملة الضحية واسمها نرجس متشحة بالسواد، غير مصدقة ماذا حصل. تتمنى عدم الكلام إلتزاماً بطلبٍ من بلدية بيروت. نشرب القهوة عن نفسه فتبدأ النسوة بالكلام بدون أسئلة: هذه إبنة حسن الكبرى نور وهذه ماريا والصغيرة (ست سنوات) إسمها لاريسا. ينادون لاريسا فتأتي وتسألني: «هل عرفتِ أن البابا مات؟ وتستطرد: سمعته يصرخ: آخ محاولا الهروب. رأيته في الفيديو. رقمه معي حاولت الإتصال به فلم يجبني. كنتُ كلما تكلمت معه يرسل لي قلبا أحمر لكنه البارحة لم يفعل». هي طفلة بريئة لا تعرف معنى الموت وتبحث عن أجوبة في عيون المعزين لكن، عبثاً.
يسكن حسن في عين الرمانة ولديه ثلاثة أشقاء هم محمد وأحمد وحسام. زوجة أحمد تُخبر: حسام إتصل بأحمد وأخبره. لم نصدق. طلبت من أحمد ان يهدأ. قلت له: ربما أصيب حسن في قدمه أو يده. لم نرد ان نصدق أنه مات. تتدخل زوجة حسن نرجس قائلة: ذهبت الى المستشفى. شاهدت الناس يتوافدون بكثرة. بحثت عنه كثيراً. يا ضيعانك يا حسن. يا حبيب قلبي يا حسن. ثم لا تلبث أن تسأل: قبضوا على المجرم؟ أريد أن أرى حسن». هناك، في الدار، يُخبرون عن «قطوعات» كثيرة مرّ فيها حسن. منذ ستة أعوام، يوم كانت زوجته حاملاً بابنته لاريسا وهو الى جانبها دخلت رصاصة طائشة خاصرته ووقفت عند الرئة. كاد يموت. كان قطوعاً. ومنذ فترة وقع وكسر وركه. هو طيّب كثيراً. ولا يستحق كل الألم الذي تحمله. تصل جدة زوجته ماري وهي في حالة يرثى لها تبكيه. محبوه كثر. حسن لا يؤذي نملة. هو كان يخاف على عائلته من لفحة الهواء ويخشى ألّا يتمكن من تلبية إحتياجات البنات الثلاث وابنه الوحيد ريان. يصل ريان للتوّ من تشييع والده. هو صبي في الحادية عشرة من عمره. يبدو قوياً. تسأله النسوة: هل بكيت؟ يجيب: لا، أنا لا أبكي. والدي كان يقول لي: لا تكن دمعتك سخية مثلي. يسحب ريان قطعة بيتزا ويتناولها ويسأل والدته: ماما وضعوا على قبر والدي حجارة كبيرة سميكة ثم رموا عليه التراب. تغمره وتبكي. حملُ نرجس أصبح كبيراً. حسن كان سندها وربّ البيت والبارحة قبل أن يغادر الى مهمته الأخيرة إشترى الشاورما لكنه أبى أن يتناول شيئاً. قال لأفراد أسرته: كلوا يا قلبي هنيئاً وصحتين. كان اللقاء الأخير.
إكراما له
يضم فوج حرس بيروت 700 عنصر مات منهم 50 وأصبحوا 650. وفي آخر فترة أصيب نحو عشرة بين قتيل وجريح. ويبدأ زملاء حسن في تذكر رفاق رحلوا: زياد المصري قتل بالسكاكين. وابراهيم المصري ما زال يعاني. وجورج الخرج هرسوا ركبته ولا يملك كلفة إجراء عملية جراحية. وميلاد و… و… يقترب رجل منا ويخبرنا: إبني حرس في بلدية بيروت أطلق النار من مسدس شخصي على ثلاثة سوريين كانوا قد خرجوا للتو من سجن دام سبعة أعوام. كانوا يحاولون السرقة. أصاب أحدهم وفرّ الباقون. فسجن ثلاثة أعوام ودفع غرامة 400 مليون ليرة.
يتحلق حولنا رفاق الضحية ويتكلمون معاً وكأنهم يبحثون عن حبلِ خلاص: «حدث منذ أيام إشتباك بيننا وبين عناصر من الحزب القومي السوري عند محطة البنزين قرب الفلمنكي في عين المريسة فأوقفنا نحن. نوقف من يقومون بعمليات سرقة ونتصل بالقوى الأمنية فيطلبون النشرة لنا نحن. لا سلاح معنا للدفاع عن انفسنا. لا تأمين وطبابة وسبل حياة. حسن كان يتقاضى من بلدية بيروت 200 دولار شهرياً لكن إندفاعه كان يتجاوز أجره. كان همه كبيراً. زوجته مصابة بالسرطان وعليه سداد إيجار منزله الشهري وتعليم أولاده. تحمل الكثير ونحن ما زلنا نتحمل. ممنوع أن نحمل حتى كلبشات. نحن من نشتري الثياب الرسمية التي نرتديها… يتساقط المطر غزيراً فيحجب لمعة العيون ويبقى الهتاف: يا الله نجنا من الأعظم.
مات حسن يوسف العاصمي. قُتل. أصبح شهيد الواجب. والشباب، زملاء حسن، في فوج حرس بلدية مدينة بيروت أخذوا قراراً: إبتداء من يوم الإثنين لن نتحرك من المقرّ العام. فمن يضمن أن لا نكون أرقاماً جديدة على لائحة الموت السهل في لبنان؟