مشاريع الحروب، ومثلها مشاريع الانتصار والهزيمة، كلّها مشاريع عبثيّة – عدميّة تحفر قبورًا ومقابر من الكيد والكيد المضادّ، لا قعر لها ولا خاتمة.
هذا في المنطقة والعالم. لكن ماذا عن لبنان، حيث الدوران الجهنّمي في حلقةٍ مفرغة، وحيث التاريخ يعيد كتابة نفسه بدون حكمة، بغلبةٍ موقّتةٍ هنا، وبسكوتٍ موقّتٍ على ضيم هناك؟
ما الفائدة من هذا كلّه؟ وإلى أين تأخذون لبنان، وإلى أين تذهبون بنا؟ علمًا أنْ لا أمان سيتحقّق لأحد إلّا بأمان الآخر، ولا كرامة لأحد إلّا بكرامة الجميع.
قرأتُ أنّ الحرب على لبنان، والحرب من لبنان، وفيه (باعتباره مطيّةً مستباحة وأرض رسائل متبادلة)، هي حربٌ قائمةٌ، ولا بدّ، وأنّ ليس ثمّة مَن عاد يحسب لهذه البلاد حسابًا بين الدول، أو عاد يتهيّب، هنا، أو في الجوار، أو على مبعدة، أحوال الناس، والمصائر.
بئس مَن يرتضي لنفسه أنْ يستمرّ يكون سببًا أو طرفًا في هذه المقتلة العظمى.
هذا كلّه يترجرج على الشفا، و”على صوص ونقطة”، وربّما يكون البلد القتيل قد دخل مدار المحظور والهاوية حقًّا وفعلًا، في وقتٍ يُمنع، منذ أكثر من سنة، وبالسلبطة العارية، انتخاب رئيس، وقد عكفت أخيرًا حكومةٌ ذمّيّةٌ ميليشيويّة ميغالومانيّة على تقديم مشروع موازنة ذميم لمناقشته وإقراره بعد صخبٍ هزليٍّ كرنفاليّ أمام مجلسٍ للنوّاب قيل إنّه سيّد نفسه، وليس هو بسيّدٍ، وليس هو بصاحب نفس (ذات)، كيفما ساسه سائسوه، وفق الطريقة الاستعراضيّة التي يُقاد بها خروفٌ إلى ذبحٍ ومذبحة.
أكثر ما يُعيب في هذه المسألة وتلك، أنّ القائمين على أمر الدولة المستباحة لا يعنيهم سوى أنّهم يتربّعون على السؤدد اللئيم، ممعنين، على ما يستطاب لهم، في إدارة هذه الدعارة الوجوديّة – الدستوريّة – القانونيّة – التشريعيّة – الرقابيّة – التنفيذيّة – القضائيّة، واثقين من أنّ “الأزل” و”الأبد” تحت أيديهم، وهما مكتوبان لهم في صكوكهم وصحفهم العقاريّة باعتبارهما (الأزل والأبد) من أملاكهم وممتلكاتهم التي جمعوها بعرقٍ ينضح من جبين عارهم ورذائل المهانة.
وقد قرأتُ أنّ مسؤولًا (ميليشيويًّا) كبيرًا سُمع يقول تعليقًا على خطاب أحدهم: قريبًا قريبًا، انتخاب رئيس. عجبًا عجبًا. فلماذا الانتخاب يكون قريبًا وليس اليوم، يا هذا، وليس قبل سنة، وليس وفق الدستور؟ ألأن القائل سأل “الأفلاك” الكونيّة مستوضحًا، وهذه قالت قولتها التي لا رادّ لها، أم لأنّ الدستور ممرّغٌ ومسفوك الدم على أيدي حماته وحرّاسه، والتلاعب به على عينك يا تاجر؟
هؤلاء وسواهم، ليسوا أكثر من حجارة دومينو وضفادع نقّاقة (منتفخة بذاتها) في لعبة الأمم الداعرة. وقد يربحون. فبئس ربحهم. غير أنّ الممالك والرئاسات والكراسي لو دامت لغيرهم ما آلت إليهم.
على الرغم من هذا كلّه، وممّا يُضَمّ إليه من مآسٍ تحكي عن يأسٍ، وفقرٍ، وتيهٍ، وبحثٍ عن سقف، ولؤمٍ سينيكيٍّ غير مسبوق في إدارة المصير اللبناني برمّته، تبقى ثمّة وردةٌ تتمرّد على ثلج عاصفة، أو تتمرّد على ركامٍ قياميّ، ومعها ابتسامة، وقصيدة، ورواية، ولوحة، وأغنية، وقصّة حبّ، وحكمة أرض، والتماعة أملٍ وحرّيّة.
فمَن يتّعظ؟!
ما من جبروتٍ، مهما تجبّر، يستطيع أنْ يسدّ أفقًا. وما من إرهابٍ، وإرغامٍ، وترويضٍ، وتدجينٍ، ومالٍ، وسلاحٍ، وما من لعبةِ أممٍ بصفقاتها وخرائطها، وما من حربٍ من خارج ومن داخل، وفينا، تستطيع أنْ تفوز إلى ما لا نهاية.
مَن له أذنان سامعتان فليسمع: هذه الدعارة السياسيّة ليست قَدَرًا.
رأي حر هذه الدعارة السياسية ليست قدرا” (عقل العويط)