عادت الجريمة لا سيما المتعلقة بحالات القتل والخطف مقابل فدية في لبنان، إلى واجهة الحياة الاجتماعية، وشكلت ظاهرة خطيرة أثارت مخاوف المواطنين، حيث ارتفعت نسبتها منذ بداية العام الحالي إلى 100 في المئة مقارنة مع الأشهر الأولى من العام الماضي.
فقد ارتفعت معدلات الجريمة خلال الأشهر الثلاثة الأولى من العام الحالي بنسبة 91.3 في المئة في أعداد القتلى وحوادث الخطف مقابل فدية مالية بنسبة 150 في المئة وزادت حالات الانتحار بنسبة 14.3 في المئة.
وفي هذا الإطار، كشف الباحث في «الدولية للمعلومات» محمد شمس الدين، أنه «خلال شهر كانون الثاني/يناير من العام الجاري بلغ أعداد حالات الخطف مقابل فدية مالية 4 مقارنة بحالتين في 2023 أي بارتفاع 100 في المئة» وربط شمس الدين ارتفاع النسبة بالوضع الأمني المتفلّت الذي تشهده البلاد في الآونة الأخيرة.
كما كشف عن أن «عدد جرائم القتل في لبنان، وصل إلى 22 حالة في كانون الثاني/يناير 2024 مقارنة بـ 11 بنفس الوقت السنة الماضية أي بارتفاع 100 في المئة وهي نسبة مقلقة جداً».
ورأى أن «الأوضاع العسكرية المتفجرة في جنوب لبنان، وحالة الإنهيار التي تعيشها الدولة على كافة الصعد، والترهّل بالأجهزة الأمنية، وعدم تقاضيهم الرواتب الكافية، وعدم القيام ببعض الدوريات، كلّها عوامل أدّت إلى ارتفاع نسبة الجريمة بالشهر الأول من العام الجاري علماً أن هذه الأعداد تشمل فقط الجرائم المبلّغ عنها لقوى الأمن».
واللافت برأي شمس الدين، «ظاهرة جديدة حيث أن الموقوفين ليس لديهم سجل إجرامي، إلا أنه في ظل الأزمة باتوا يلجأون إلى عصابات السرقة والقتل، لكسب المال».
الجوع والفقر والبطالة
لا شكّ أن الأزمة الاقتصادية ساهمت بتدهور الوضع العام في لبنان، وخصوصاً أن انهيار الدولة بمعظم ركائزها تسبب بزيادة معدل الجريمة، إلّا أن الجوع والفقر والبطالة وتزايد أعداد المغتربين من كافة الجنسيات، ينذر بتفاقم الوضع الاجتماعي إلى أسوأ، وخصوصاً أن مرتكبي الجرائم في البلد ليسوا فقط من اللبنانيين.
كما أنّ هناك عدّة عوامل تضاف إلى العامل الاقتصادي خلف أسباب الجريمة.
يذكر أن الخطف هو جريمة يعاقب عليها قانون العقوبات اللبناني بنص المادة 569 حيث تقضي أن من حرم آخرا حريته الشخصية بالخطف أو بأي وسيلة أخرى، عوقب بالأشغال الشاقة المؤقتة، وبالأشغال الشاقة المؤبدة في كل من الحالات التالية: إذا جاوزت مدة حرمان الحرية الشهر، إذا أنزل بمن حرم حريته تعذيب جسدي أو معنوي.
ويرى الأستاذ الجامعي الدكتور قاسم سليمان، أن لظاهرة القتل والخطف أسبابها المتعلقة بحالة الانهيار العام التي تضرب لبنان، وكان أبرزها انهيار العملة الوطنية وارتفاع أسعار المواد الغذائية والدواء، وتفشي الأمراض وسوء التغذية، كلها أسباب أدت إلى انحلال مجتمعي يفوق التصورات.
لافتا في حديث لـ«القدس العربي» إلى أن هذا بدوره يزيد من حالات الجريمة لا سيما المتعلقة بالقتل والسرقة والخطف مقابل فدية مالية، وشدد على أنّ التسيب الأمني يترافق مع عاملين سلبيين للغاية؛ الأول ضعف قدرة الأجهزة الأمنية في مكافحة الجريمة بسبب الأوضاع المالية والاجتماعية واللوجستية الصعبة التي يعانيها ضباط وعناصر الأجهزة الأمنية، وتراجع جهوزيتها عما كانت عليه قبل الأزمة، والثاني الاعتكاف القضائي، وامتناع معظم قضاة النيابات العامة عن تلقي الاتصالات من الأجهزة للتبليغ عن الجرائم وإعطاء الإشارة حول كيفية معالجتها.
ويشدد الدكتور قاسم على ضرورة أن تتحرك الدوائر والمؤسسات المعنية بالدولة اللبنانية، من أجل معالجة هذه الظاهرة الخطيرة التي بدأت تشكل مصدر قلق وخوف لدى اللبنانيين على أنفسهم وعلى أطفالهم وعائلاتهم.
مؤكدا أن العلاج يبدأ من وضع حد للانهيار المالي والمعيشي ومساعدة المواطن، وأن تعزز الدولة والدوائر المعنية من دورها في مكافحة الجريمة.
من جهته، يؤكد المحامي اللبناني جورج الرّيس أنه مع استمرار تدهور الأوضاع الاقتصادية والمعيشية التي تزداد وتيرتها بفعل اشتداد الأزمة المالية التي أفقدت المواطن قدرته الشرائية، أصبح تأمين الاحتياجات الأساسية عبئاً ثقيلاً على كاهله، إذ باتت السرقة بدافع الجوع والخطف بهدف الحصول على فدية مالية من أكثر الوسائل شيوعاً في الآونة الأخيرة في بلد يزيد فيه غياب الأمن وانعدام العدالة الاجتماعية بالتزامن مع موجة من الضغوط النفسية. واعتبر الريّس أن تداعيات الأزمة المالية والاقتصادية في لبنان لا تتوقف عند حدود الانهيار الاجتماعي والصحي والتعليمي فحسب، بل بلغت مرحلة تهديد الوضع الأمني، وتفلت الجريمة، التي بدأت تتفشى بوتيرة سريعة في عدد من المناطق، لافتاً إلى أن العصابات التي تمتهن جرائم السلب والسطو المسلح والقتل اتخذت من التراخي الأمني فرصة لتفعيل عملياتها بما يسهل عليها الإفلات من العقاب.
الكحول والمخدرات
أمّا من الناحية الاجتماعية والنفسية، تشير الأخصائية والمعالجة النفسية فالنتينا عطية إلى أن الشخص يتأثر بالبيئة التي يعيش فيها سلبيا أو إيجابيا، أي أن البيئة الحاضنة له هي من تزرع في داخله سلوكاً معيّناً، مضيفةً أن جريمة القتل هي حقيقة تختلف بحسب كل منظور، من الناحية الاجتماعية، القانونية والنفسية. وتابعت أنه من الناحية الاجتماعية والاقتصادية فأبرز الأسباب التي تؤدي إلى عملية القتل، هي الفقر، الوضع الاقتصادي، والوضع العائلي وغيرها. وتشير عطية إلى أن أسلوب التربية ضمن العائلة يلعب دوراً كبيراً في شخصية الفرد، خصوصاً إذا كان يعيش ضمن عائلة فيها كره وحب السيطرة، وحب التجربة والمغامرة، وكسر القوانين، بالإضافة إلى أننا أصبحنا نعيش في مجتمعات تحتوي على تغييرات ثقافية وإعلامية تساهم في قيادة العنف بعدّة طرق. وفي المقابل، أكدت عطية أن تطوّر عالم السوشال ميديا خلق أيضاً هاجساً سلبياً للأشخاص الذين هم تحت خط الفقر، وشكّل لديهم سلوكاً من الغيرة، الأنانية، الطمع، وبالتالي لم يعد لديهم اكتفاء ذاتي، ما يعزز غريزة القتل والإجرام لديهم، كونهم غير راضين عن مستوى حياتهم. وأضافت أن في لبنان مجتمعات تنصّ عاداتها وتقاليدها على العنف وأخذ الثأر، بالإضافة إلى غياب الدولة والأمن اللذين يجعلان كل فرد يفكر بأخذ حقه بمفرده من دون اللجوء إلى القانون والقضاء. ولفتت إلى أن بعض الجرائم تحصل تحت تأثير الكحول والمخدرات، مضيفة أنه عادةً من يلجأ إلى العنف يكون لديه شخصية عدوانية ولا يملك طريقة أخرى في التعبير. وختمت عطية أن هناك الكثير من المشاكل النفسية التي تدفع الشخص إلى ارتكاب جرائم القتل، وكل حالة تختلف عن الأخرى.
ولا يمر يوم إلا ويسمع اللبنانيون عن جرائم مروعة تحصل في مختلف المناطق، وتشير التقارير أن معظمها دافعه الحاجة المادية.
بدوره، يعزو اللواء المتقاعد في قوى الأمن الداخلي، والأستاذ في كلية العلوم الاجتماعية في الجامعة اللبنانية فضل ضاهر أسباب تزايد معدلات الجريمة في الفترة الأخيرة إلى الوضع الاقتصادي الذي وصل إليه لبنان.
وقال ضاهر: «في العادة تشكل مثل هذه الأوضاع بيئة ملائمة لتزايد الدوافع الانحرافية بشكل كبير جداً، وتزداد أضعافاً مضاعفة كلما تدهور الوضع الاقتصادي والاجتماعي».
ولمعرفة نسبة ارتفاع معدل الجرائم هناك مصادر متعددة يشرحها ضاهر بالقول: «هناك أولاً معدلات الإجرام الظاهر، والتي يمكن الاطلاع عليها من تقارير قوى الأمن الداخلي اللبناني والمراكز الأمنية والجيش، كما أن هناك وسيلة أخرى تتمثل باللجوء إلى أقلام المحاكم في مختلف المناطق، ولكن للأسف هذه الوسيلة غير متوفرة في لبنان نظراً لعدم وجود مراكز للبحوث الجنائية أسوة بمعظم دول العالم».
ولتفشي الفقر والبطالة تداعيات خطيرة لها تأثير على ارتفاع الجرائم وحول هذه النقطة يوضح ضاهر قائلا: «إن أحد أهم أسباب ارتفاع معدلات الجريمة في مثل هذه الظروف هي اضطراب الصحة النفسية، والتي تشكل دافعاً لعنف متطرف».