نفذت مجموعة تابعة للموساد الإسرائيلي عملية اغتيال الصرّاف محمد سرور، المُدرج على لائحة العقوبات الأميركية، بدقة عالية. واختارت تصفيته في منطقة بيت مري في المتن الشمالي، في فيلا “KMEID”، الموجودة في شارع رقم “7”.
من الواضح اليوم، أن الفرقة اختارت هذه المنطقة لأسباب عديدة؛ وأهمها أنها مُخصصة لـ”الفلل” الفخمة، وخالية من أي محال تجارية. فهي منطقة هادئة جدًا وشبيهة بالمناطق الريفية البعيدة عن العاصمة بيروت. بمعنى أوضح، فإن شوارع هذه المنطقة تُقصد من أصحاب الفلل فقط.
ترميم العقار وتركيب أجهزة مراقبة
وللكشف على مكان تنفيذ الجريمة، جالت “المدن” في شارع رقم 7، الذي يضم حوالى 10 فلل فقط، وتبيّن بأن الفيلا التي قامت السيدة زينب حمود باختيارها، هي فيلا ضخمة، مؤلفة من 3 طوابق، ولها عدة مداخل. وكان لافتًا أن جميع النوافذ مموهة ومغلقة بشكل كامل. وحسب معلومات خاصة حصلت عليها “المدن”، ففي بداية شهر نيسان الجاري، قامت المجموعة الموجودة داخل الفيلا بتركيب كاميرات للمراقبة لجميع مداخل الفيلا، وقاموا بإصلاح الباب الحديدي لموقف السيارة الخاص بالعقار، ورمموا المدخل الرئيسي، ووضعوا كاميرا للمراقبة على المدخل والباب الخشبي.
وحسب معلومات “المدن”، فإن أصحاب الفيلا المواجهة لهم (البعيدة عن فيلا “kmeid” بضعة أمتارٍ)، يقيمون حاليًا في فرنسا، وبداخل الفيلا تتواجد العاملة المنزلية فقط وبعض العمال.
وحسب إفادة مزارع في المنطقة لـ”المدن”، والذي يعمل في فيلا قريبة، أكد أنه لم يكن على علم بأن السيدة حمود مقيمة بداخل فيلا “KMEID”، معتقدًا أنها فيلا خالية من السكان، فالأنوار مطفئة بشكل دائم والأبواب مغلقة، لكنه لاحظ خلال الأسابيع الماضية قيام أحد العمال من التابعة السورية بترميم المدخل الخارجي للفيلا فقط.
رسائل سياسية
وفي هذا الشارع تحديدًا، حركة السير خفيفة جدًا، وغالبية الفلل خالية من السكان. ربما، هذه الأسباب كانت كافية لتتمكن الفرقة من استجواب سرور لفترة طويلة وتعذيبه ومن ثم قتله من دون أن يعيق عملها أي أحدٍ.
في الواقع، بضعة أوراق دولار من فئة المئة، هي التي كانت ملقية على جثة الصراف محمد سرور. بضعة أوراق هي كانت الرسالة “المبطنة” التي أراد بها قتلة الصراف المتهم بقربه من حزب الله وإيران وحركة حماس، إيصالها لهم، من وراء عملية الاغتيال الموصوفة. وبين فرضية الاغتيال السياسيّ على يد الموساد الإسرائيلي، وبين سيناريو القتل بغاية السرقة الذي تردد في البداية.. ثمة بعد آخر للجريمة الواقعة، يشير لمدى سهولة الجريمة في لبنان، وتحولها من حادث مروع لشيء نمطي متوقع، ومرآةٍ تعكس هشاشة الأمن في لبنان، هذا المفهوم المندثر، هذا الشعور البديهي المسلوب من المواطن.
قتل وتعذيب
وبقراءة الملابسات التي تحيط بجريمة مقتل سرور، أفاد وزير الداخلية في حكومة تصريف الأعمال، القاضي بسام المولوي “أن أصابع الاتهام تشير إلى الموساد”. ومن خلال متابعة التحقيقات، يتبين أيضًا، أن هذه العملية لم تحصل من دون مساهمة خارجية، وخصوصًا بعدما أشارت المصادر الأمنية لوجود شخص من خارج الأراضي اللبنانية سهل على الجناة عمليتهم، بـ”بيع رأس” سرور، وفق السرديات المخابراتية، لهؤلاء.
وغالبًا، فإن هذا المتورط هو على معرفة بعمل سرور، وعلى تواصل سابق معه، وطلب منه في الفترة الماضية تسليم مبلغ من المال يبلغ حوالى 10 آلاف دولار لسيدة تقيم داخل الفيلا، اسمها الوهمي “زينب حمود”، وهي التي ساعدت الفرقة باستدراج سرور إلى الفيلا لتصفيته، بعد الحصول على المعلومات المطلوبة. انطلاقًا من هذه المعطيات، توقعت المصادر الأمنية أن يكون الشخص الذي تواصل مع سرور، “يعمل أيضًا في تسهيل مرور الأموال لفلسطين، ولكنه تحول لاحقًا لعميل إسرائيليّ وساعدهم في استدراج سرور إلى الفيلا”.
وعلى ما يبدو، أن المجموعة كانت تمتلك وقتًا كافيًا لتنفيذ مهمتها، والخطة لم تُنفذ في المرة الأولى، لأن سرور توجه إلى العنوان برفقة إبن شقيقه، ما دفع السيدة إلى تسلم المال من وراء النافذة، فلم تظهر ملامحها بشكل كامل، خصوصًا أن المجموعة عمدت إلى وضع نوافذ خارجية بيضاء اللون مموهة، وفي اليوم التالي، طلب الشخص نفسه من سرور تسليم مبلغ آخر من المال للسيدة نفسها، فتوجه سرور وحده إلى الفيلا، فاستقبلته السيدة حمود طالبةً منه الدخول إلى الفيلا، وانقطع التواصل معه.
والحال، وحسب معلومات “المدن”، فبعد دخول سرور إلى الفيلا، استقبلته المجموعة التي كانت بانتظاره، ورجحت المعلومات أنها فرقة مؤلفة من ثلاثة رجال وامرأة واحدة، وقاموا بتعذيب سرور بأدوات حادة. فتقرير الطبيب الشرعي أكد وجود كدمات على الجثة. وبدأ الاستجواب للحصول على معلومات دقيقة، وأطلقوا حوالى 8 رصاصات متفرقة على جسده، وتوزعت تحديدًا بين اليدين والقدمين، وهي بحسب المصادر الأمنية رسائل سياسية بطريقة قتل سرور.
وأخطر ما في هذا الأمر، أن قضية قتل سرور كشفت هشاشة الوضع الأمني في لبنان، إذ تمكنت فرقة مؤلفة من مجموعة أشخاص بالدخول إلى الأراضي اللبنانية منذ أسابيع، وفتشت عن شقة للإيجار، ودفعت 48 ألف دولار أميركي نقدًا، وهي تكلفة إيجار الفيلا لمدة عام كامل وبأوراق مزروة، وتمكنت أيضًا من شراء سيارات بأسماء مزورة، ودفعت جميع المبالغ نقداً، وأيضًا تنقلت بالسيارة داخل منطقة بيت مري بشكل مريح، واستدرجت الصراف مرتين واستجوبته وعذبته ومن ثم قتلته وخرجت من المنطقة وغادرت الأراضي اللبنانية، بينما الأجهزة الأمنية لم تعثر على الجثة إلا بعد أسبوع من تنفيذ هذه الجريمة، ما يشي بأننا دخلنا في مرحلة الانفلات الأمني.
التحقيق والاغتيال
وحسب المعطيات التي حصلت عليها “المدن” فإن سرور تعرض لاستجواب عنيف بهدف الحصول على معلومات متعلقة بالأشخاص الذين تعامل معهم في فلسطين وسهل مرور الأموال إليهم، فهو متهم بنقل الأموال من إيران لحركة حماس، وساعد بتمرير الأموال لصالح عائلات في فلسطين، كما أنه متهم بدعم إيران وحلفائها ماديًا. وعليه، وحسب المعطيات الأمنية، فقد جرى استجوابه بهدف الحصول على معلومات تتعلق بأسماء عائلات موجودة في فلسطين. وأفادت المصادر أن هواتفه المحمولة لم تكن موجودة بالقرب من الجثة، ما يؤكد أن الفرقة أصرت على الحصول على الهواتف من أجل الاطلاع على الأرقام والمحادثات بداخلها، أما بما يتعلق بالمبالغ المالية التي سلّمها للسيدة، فأوضحت المصادر نفسها أنها عثرت على مبلغ لا يتجاوز الـ700 دولار أميركي.
واللافت أنه وبعد يومين من العثور على جثة سرور، أعلن الجيش الإسرائيلي عن مقتل أحد أبرز الممولين للأنشطة العسكرية لحركة حماس في رفح، ما يرجح أن يكون سرور قد سرّب خلال استجوابه وتعذيبه معلومات شخصية حول هويات الأشخاص الذين يتعامل معهم في فلسطين.
عمليًا، المؤكد اليوم أن هذه القضية تصنف من القضايا المعقدة التي يصعب على الأجهزة الأمنية كشفها بسهولة. لذلك فقد بدأت مراقبة حركة الدخول والخروج من مطار رفيق الحريري الدولي، علمًا أن المصادر رجحت بأن الفرقة هي مجموعة مؤلفة من جنسيات متعددة، وبالتالي قد يصعب التعرف على هوياتهم بسهولة. من جهة أخرى، فإن هذه العملية تؤكد أن إسرائيل ستعمد الى اغتيال جميع ممولي حماس.