عودة النازحين “شيلوها مِن راسكن”!

في ذروة الحرب السورية، عندما كان النازحون يتدفقون إلى لبنان بالآلاف أو عشرات الآلاف يومياً، من معابر شرعية وغير شرعية، لم يرتفع صوت أي جهة سياسية في لبنان يحذّر من العواقب. ولم يُسمع أحد في أوروبا يقرع ناقوس الخطر. وللأمانة، بَدا «التيار الوطني الحر» مهتماً، لكن القوى السياسية كلها، بلا استثناء، كانت ضائعة في زواريب السياسة. وللأمانة أيضاً، هناك أقلام صحافية كتبت مراراً وتكراراً عن «قنبلة النازحين» في تلك الفترة، لعل أحداً يستيقظ على المخاطر، ولكن عبثاً.

بعض المعنيين كان يفكر فقط بالفائدة الآنية، سياسياً. وكثيرون طمعوا بالاستفادة المادية التي يتلقّونها مقابل إيواء النازحين، في بلد أشبه بمغارة علي بابا، حيث أموال المساعدات تدخل وتختفي.

اليوم، استفاق زعماء الطوائف والمذاهب والأحزاب والتيارات على الخطر الذي يتهدد البلد بكيانه، وينسف أركان التوازنات فيه.

بالتأكيد، لا أحد يريد عودة النازحين السوريين إلى بلادهم حرصاً على حقوقهم الوطنية. تماماً كما أن أحداً لا يريد عودة النازحين الفلسطينيين إلى بلادهم من أجل قضيتهم الوطنية.

في لبنان، أبناء الطوائف والمذاهب يهتمّون فقط بمصالحهم الخاصة. فإذا كان وجود النازحين الفلسطينيين والسوريين يخدم هذه المصالح، فإنهم يقبلون ببقاء هؤلاء في لبنان إلى أجل غير مسمّى، والعكس صحيح. كما أن الفوائد الأخرى التي كان يحصل عليها أهل السلطة، أي المساعدات الدولية، يبدو أنها ما عادت «حرزانة».

وفي مسألة المليار يورو، لا مشكلة لدى أهل السلطة في القول إنهم تقاضوا «رشوة» مقابل السكوت عن حضانة النازحين، وإنما تكمن مشكلتهم في المبلغ المدفوع وطريقة توزيعه. فهذا الطاقم يَجد أن المليار مقسّطة على أربع سنوات، هي مبلغ صغير، خصوصاً أن الهيئات الدولية هي التي تتولى توزيع قسم كبير منه، ولا يمكن لأهل السلطة أن يستفيدوا إلا بالقليل. وبالتأكيد، لو كانت الهبة بحجم 10 مليارات يورو مثلاً، وتصل كلها إلى أيدي المسؤولين مباشرة، لما سُمع بين هؤلاء من يعترض أو «ينقّ».

وعلى الأرجح، هذا الطاقم الذي سمح له ضميره بنهب مليارات المصرف المركزي والمصارف والمودعين، ويصرّ على رفض الإصلاح على رغم خراب البلد، ويخطط لاستمرار عمليات النهب، لم يشعر بألم الضمير عندما تدفق النازحون على مدى سنوات، وهو لم يشعر بهذا الألم عندما تقاضى المليارات «على نيتهم»، وسيتقاضى.

النازحون السوريون والفلسطينيون محظوظون في لبنان، لأن لا دولة ستقوم لها قيامة ذات يوم وترسم لهم خطط العودة. فالدولة العاجزة مثلاً عن توحيد سعر الدولار كيف لها أن ترسم خطة لإعادة النازحين إلى بلادهم أو ترحيلهم إلى بلد ثالث.

وأساساً، السوريون الموجودون في لبنان باتوا يفوقون المليونين ونصف المليون نسمة، أي إنهم مع نصف مليون فلسطيني، أصبحوا أكثر من نصف عدد السكان اللبنانيين. وهؤلاء، ليس معروفاً فيهم النازح من العامل من المقيم. فكيف لدولة عاجزة أن تتخذ قراراً بإخراج هذا العدد الهائل من لبنان، خصوصاً أن غالبيتهم مرتاحون على وضعهم ولا يريدون المغادرة بأي شكل. وعلى العكس، هم يرسخون استقرارهم بمشاريع تجارية وصناعية وزراعية واقتناء ما أمكن من ممتلكات. وربما يكون السوريون والفلسطينيون في الوقت الحاضر، أكثر تشبّثاً بالبقاء في لبنان من الشباب اللبنانيين الذين يسلكون طريق الهجرة بكثافة. وهذه الهجرة المستمرة، مقابل تدفق النازحين، تزيد من سرعة الاختلال الديموغرافي في لبنان. تُضاف إليها كثافة في أعداد الولادات في بيئات النازحين، مقابل تضاؤلها في بيئات لبنانية عدة.

وكل الأفكار التي طرحها اللبنانيون في السنوات الأخيرة لإعادة النازحين، لم تنجح إلا بإعادة بضع مئات أو آلاف منهم. أما التلويح بتشجيع هؤلاء على الصعود في المراكب والتوجّه إلى أوروبا فلن تكون نتائجه أفضل، لأن الأوروبيين سيرغمون معظم هؤلاء على العودة من حيث أتوا، أي لبنان. وفي أي حال، ما أهمية خروج بضعة آلاف أو عشرات الآلاف من أصل مليونين ونصف المليون؟

أمّا المخرج السياسي الذي يعتبره البعض حيوياً، أي فتح قناة اتصال حول النازحين مع دمشق الأسد، فليس مضموناً أن يصل إلى نتيجة. فدمشق التي خرجت من لبنان العام 2005، لديها الكثير من الأمور التي تريد إثارتها. وما أن ينفتح ملف النازحين مع دمشق حتى يصبح متشابكاً مع ملفات سياسية وأمنية وحدودية واقتصادية معقدة ولا يمكن حلها في المدى المنظور. وفوق ذلك، ستصر الحكومة السورية على القول للغربيين والعرب: إرفعوا عنّا الحظر والعقوبات، وامنحونا مساعدات دسمة لنتمكن من إعادة إعمار مدننا المدمّرة، وحينذاك نستوعب النازحين.

في الترجمة، هذا يعني أن لا عودة للنازحين في المدى المنظور. وليس مضموناً أنها ستتم، ولو في المدى البعيد… فهل من أحد يمتلك تصوراً آخر لمستقبل هذا الملف؟

اترك تعليق