هو «مثلّث برمودا» اللبناني الذي يتبلور بأوضح صُوَرِه هذه الأيام، مُنْذِراً بـ «ابتلاعِ» بلاد الأرز سواء عبر «الثقب الأسود» الذي تشكّله الأزمة الرئاسية المتمادية التي تُفَرِّغُ هيكلَ الحُكْمِ وتُعَطِّلُ نظامَه التشغيلي، أو ملف النازحين السوريين الذي تمت «ترقيتُه» إلى مصاف الخطَر الوجودي على الوطن الصغير، أو «حرب المشاغَلة» التي تستمرّ بلا هوادة على جبهة الجنوب منذ 8 أكتوبر والمفتوحة على شتّى الاحتمالاتِ المحمَّلة بأعلى درجات المَخاطر.
ولم يكن عابراً أن تتقاسم هذه المَخاطر «المثلثة الضلع» وبالتساوي المَشهد اللبناني، في الوقت الذي كانت رفح تستقطب الأنظار من زاويتين: الأولى مجزرة مخيم السلام التي وقعتْ عشية استئناف مفاوضات الهدنة وتَبادُل الأسرى اليوم وجاءت لتزيد «نقطةً سوداء» على سجلّ الجرائم ضد الانسانية التي ترتكبها اسرائيل وحوّلتْ معها غزة «محرقة» لَمن فيها ولتعزّز الخشية من مضي تل أبيب في الإبادة الجَماعية بلا أي كوابح مستظلّة «نيات التفاوض». والثانية أول مواجهة مصرية – اسرائيلية بالنار على معبر رفح والتي عكست أن حرب غزة باتت قاب قوسين من التمدّد و«حرْق» خطوط حمر عدة ما لم يتم إيجاد وعاءٍ ديبلوماسي – سياسي لاحتواء التصعيد ووقف الحرب.
ويشكّل الواقعُ الإقليمي الذي يسير على حافة الانفجار الكبير، سواء بخطأ كبير في التقدير أو بفعل عدم استعداد اسرائيل لـ «النزول عن الشجرة» إلا إلى «أرض محروقة»، أحد خلفياتِ عودة الموفد الرئاسي الفرنسي جان – ايف لودريان الى بيروت حيث يعقد لقاءات اليوم وغداً مع كبار المسؤولين تتناول الأزمة الرئاسية ووجوب قفْل «باب الريح» هذا بما يساعد لبنان على «تصفيح» واقعه السياسي بحال اشتدّ عصف الحرب في غزة أو في اتجاهه، كما بحال أفضت الديناميات الديبلوماسية التي لا تهدأ إلى مسارٍ تَسْووي يتعيّن أن تُلاقيه بيروت بسلطة مكتملة «من رأسها» كي تكون جالسة الى الطاولة ولا يتحوّل لبنان مجرّد ورقة… على الطاولة.
وقبل وصول لودريان، بدا واضحاً أن التوقّعات حيال نتائج زيارته تقاطعت عند أنها ستكون على طريقة «الحرَكة بلا برَكة» وأنها أقرب إلى «إثبات وجود» أو إعلان «présent» من جانب باريس في الملف اللبناني والمأزق الرئاسي، وذلك بعدما فرّغ فريق «الممانعة» خريطة الطريق التي وضعتْها «مجموعة الخمس حول لبنان» لإنهاء الشغور الرئاسي من مضمونها باعتبارها ضِمْناً من رئيس البرلمان نبيه بري «منحازة» لمسارٍ تريده المعارضة بتشاور شكلي يْفضي إلى فتْح البرلمان لجلسة مفتوحة بدورات متتالية تتنافس فيها «قائمة قصيرة» من المرشّحين حتى انتخاب الرئيس، وسط مقاربةٍ خفيّة مضادة لهذا الفريق تقوم على معادلة «الحوار ثم الحوار حتى التوافق على الرئيس».
وفي الإطار نفسه تمّ «تنفيسُ» جسّ النبض الذي سبق وصول لودريان حيال لقاء لبناني – لبناني ممكن أن تعرض باريس أن تستضيفه كتمهيدٍ لتوافق على الإفراج عن الاستحقاق الرئاسي من ضمن سلة تفاهمات وتطمينات، وهو ما عبّر عنه ما نُقل عن أجواء بري وسؤالها في اعتراضٍ على «جغرافيا الحوار»: «لماذا في باريس وليس في بيروت أو في دولة عربية يُتفَق على اختيارها»؟، ناهيك عن صعوبة تَصَوُّر أن تسير المعارضة بطرح «الطاولة الرئاسية» هي التي كرّستْ اعتراضَها المبدئي على أيّ مسارات تستبدل الانتخاب تحت قبة مجلس النواب بأي «بدع» تقوّض الدستور.
على أن زيارة لودريان المحكومة بأن تنتهي على طريقة «متل ما رحتي جيتي»، لن تقلّل من وطأة ما سيستخلصه والذي سيرفعه الى الرئيس ايمانويل ماكرون الذي كان بَحَثَ في الملف اللبناني هاتفياً مع وليّ العهد رئيس مجلس الوزراء السعودي الأمير محمد بن سلمان الأسبوع الماضي وسيستكمل هذا البحث مع الرئيس الأميركي جو بايدن خلال زيارته لباريس بعد نحو 10 أيام، في محاولةٍ لرفع الضغط بهدف فكّ استرهان الانتخابات الرئاسية لحرب غزة والدفْع نحو خيارٍ تَوافقي (المرشح الثالث) في الوقت الذي يتَمَسّك «حزب الله» بسليمان فرنجية بوصفه المرشح «رقم واحد والوحيد» ويرفض ترْك اللعبة البرلمانية تأخذ مجراها رئاسياً عبر أولاً الدعوة إلى جلسةٍ تكسر الرقم 12 الذي توقّف عليه «عدّاد الجلسات» في 14 يونيو 2023، كما التعهّد بعدم تعطيل النصاب.
وإذا كان الحِراك الدولي في اتجاه لبنان، سواء عبر زيارة لودريان أو الدور المستمر لدول الخُماسية الأخرى كـ «جسم واحد»، ينطلق في أحد أبعاده الرئيسية من خشية متعاظمة من رياح ساخنة قد لا يكون ممكناً الحؤول دون هبوبها على «بلاد الأرز» ما لم يفصل «حزب الله» جبهة الجنوب عن غزة، أو أقلّه يُعطي إشاراتٍ إلى أن أفقَ ما بعد أي هدنة في القطاع مفتوح على احتمال قبوله بالتراجُع عن الحدود لحوالي 10 كيلومترات، فإنّ هذه الخشية باتت تجد ركائز أكبر في ضوء تمدُّد المواجهات بين «حزب الله» واسرائيل كمّاً ونوعاً من خلف ظهر الردع الذي يعتبر الحزب أنه أرساه على قاعدة «التدمير بالتدمير» والتوسعة بالتوسعة في حال أي مغامرة إسرائيلية نحو حرب شاملة.
3 تطورات
وكان بارزاً أمس في موازاة التهاب الميدان 3 تطورات عكست مخاوف من أن يلجأ بنيامين نتنياهو الذي «لا يرحم» غزة وأهلها إلى ركوب الحرب الواسعة مع «حزب الله»:
– الأول تقارير في صحف اسرائيلية عن أن «حزب الله» سيلجأ إلى التصعيد من خلال استخدام أسلحة جديدة أكثر تطوراً غير مستخدَمة بعدة 4تشمل الصواريخ الدقيقة بعيدة المدى وصواريخ أرض جو التي سيحاول إطلاقها على طائرات سلاح الجو الإسرائيلي، و«صاروخ صنعتْه روسيا وقامت إيران بتعديله».
– والثاني ما كُشف في تل ابيب عن أن الجيش الإسرائيلي أجرى تدريبات تحاكي حرباً على الأراضي اللبنانية تشمل سيناريوات القتال وتحريكاً سريعاً للقوات وعمل مقرات للقيادة.
وقال الناطق العسكري الاسرائيلي افيخاي ادرعي إنه «على مدار الأسابيع الأخيرة أجرت الفرقة 146 ولواء المدرعات الاحتياطي 205 تمرينات على مستوى الفرقة واللواء يحاكي المناورة البرية في لبنان، حيث حاكى التمرين السيناريوات القتالية على الجبهة الشمالية، والنشر السريع للقوات في الميدان، ووظيفة مقرات قيادة الفرقة واللواء وجاهزية القوات للهجوم».
– والتطور الثالث ارتفاع منسوب الاستياء في مستوطنات الشمال الاسرائيلي من مسار الحرب على جبهة الجنوب، وصولاً لانشقاق رئيس مجلس مستعمرة «مرغليوت» إيتان دفيدي عن حكومة بلاده ودعوته الجيش إلى مغادرة المستعمرة، معتبراً أن مرغليوت «ليست بحاجة إلى الحماية من حزب الله، بل من الحكومة الإسرائيلية التي تدمر المستوطنة بقراراتها».
ولفت في موازاة ذلك تداول ناشطين قريبين من «الممانعة» دعوة لمستوطني الشمال الذين لا يريدون أن تُستَهدف منازلهم «لطرد جنود الجيش الإسرائيلي الذين يحتمون داخل منازلكم ولرفع الراية البيضاء على أسطح المنازل شرط أن تكون مرئية. وبعدها ستأمن منازلهم».
مؤتمر بروكسيل للنازحين
ولم تحجب هذه التطورات الأنظار عن مؤتمر بروكسيل الثامن لـ «دعم مستقبل سورية والمنطقة» والذي واكبه لبنان على المنبر عبر كلمة وزير الخارجية عبدالله بوحبيب الذي أكّد الموقف الرسمي الذي يقوم على أن «بلاد الأرز» لم يعد في وسعها تحمل عبء «كارثة» استضافة أكثر من مليونيْ نازح يشكلون نصف عدد المقيمين على أراضيها، وأن بيروت ستمضي بالتشدد في تطبيق القوانين على النازحين غير الشرعيين على غرار ما تطبّقه بلدان الاتحاد الأوروبي.
وأمام مقر المؤتمر، نفّذ الانتشار اللبناني بدعم ومشاركة من حزب «القوات اللبنانية»، وأيضاً بحضورٍ من «التيار الوطني الحر»، وقفةً طالبت بالتراجع عن سياسة دعم بقاء النازحين في لبنان وحذّرت من تداعيات هذا الوجود غير الشرعي على المستوى الأمني والاقتصادي والاجتماعي فضلاً عن سيادة البلد وهويته، ومن «استبدال الشعب اللبناني بآخَر».