تُختصَر مبادرة النائب جبران باسيل الرئاسية بمحاولة “حَشر” المعطّلين في زاوية الحوار. ومن أجل ذلك تراجَع رئيس التيّار الوطني الحر عن شروط سبق أن فرضها كمدخل للحوار والقبول بالتفاهم. لكن من يعرف باسيل يقرّ بأنّ تراجعه خطوات إلى الوراء أتى ضمن سياق مهادنة ليَضرب ضربَته: إزاحة سليمان فرنجية وقائد الجيش جوزف عون… بالحوار والتشاور.
لم يأتِ ترحيب الرئيس نبيه بري بمبادرة باسيل من عدم، فقد تقصّد رئيس مجلس النواب التذكير بأنّ خصمه السابق عاد إلى قواعد عين التينة سالماً.
في الوقائع تراجَع باسيل عن دفتر شروط فَرضَه سابقاً في سياق معركته المفتوحة للإتيان برئيس لا يهدّد مساره السياسي في السنوات الستّ المقبلة: تراجَع عن شرط الاتّفاق بالحوار على برنامج العهد المقبل، وتراجع عن ضرورة مشاركة كلّ رؤساء الأحزاب في الحوار “كي يكون هناك قرارات وليس فقط كلام”، وتراجع عن شرط “الإدارة المُحايدة” للحوار الذي يجب أن لا يرأسه طرف أساسي في النزاع (قاصداً برّي يومها)، وتراجع عن شرط إقرار مجلس النواب الحالي قانونَي اللامركزية الإدارية والمالية الموسّعة والصندوق الائتماني قبل الانتخابات الرئاسية وحتى أخذ تعهّد من الرئيس بري والنواب بإقرارهما كأولوية في العهد المقبل، ولم يعد يطالب البطريرك الماروني بشارة الراعي بجمع رؤساء الأحزاب المسيحية تحت عباءته للاتفاق على الرئيس المقبل.
يحاول باسيل من خلال حراكه الرئاسي تشكيل لوبي نيابي ضاغط لفرض الحوار ثمّ الانتخاب بغضّ النظر عن التفاهم على اسم أو مجموعة أسماء
“الدَفش” إلى الحوار
في المحصّلة، بعد “سياسة الحواجز” فَتَح باسيل أوتوسترادات باتّجاه عين التينة وبكركي والصيفي وغالبية القوى السياسية في سياق عملية “إنزال” فوق ركام مبادرات “اللجنة الخماسية” و”كتلة الاعتدال” و”اللقاء الديمقراطي” الهدف منها “دَفْش” الجميع باتّجاه الحوار، كممرّ إلزامي، صوب القاعة العامّة لمجلس النواب مقرّ إنتاج الرّئيس بالتصويت. وكما كشف “أساس” سابقاً يقرّ باسيل بأنّ الثنائي الشيعي و”القوات اللبنانية” يشكّلان أداة التعطيل الأساسية للاستحقاق حتى في ظلّ دعوة بري المتكرّرة إلى الحوار ما دام طيف سليمان فرنجية يسيطر على قرار الثنائي، ولذلك يأتي تحرّك باسيل في سياق سياسة الإيجابية المطلقة من أجل حشر الجميع بالزاوية متقمّصاً دور double face: باسيل الوسطيّ جامع الأضداد، وباسيل مانح الغطاء المسيحي للحوار المفترض والجلسات الرئاسية المفترضة.
تسلّم معظم القوى السياسية، من ضمنها باسيل، بصعوبة الاتّفاق على اسم واحد قبل عملية التصويت، ولذلك طرح باسيل أمام برّي ومن التقاهم مساراً من مرحلتين: الاتفاق على أكثر من اسم والذهاب نحو جلسات بدورات متتالية تتخلّلها حوارات في أروقة المجلس إلى حين الاتفاق على اسم، أو الذهاب إلى التصويت على الرئيس من دون تفاهم “كون استمرار الفراغ أخطر”.
هنا لبّ الموضوع. فحتى الساعة لم يسمع باسيل ما يمكن أن يشير إلى احتمال تراجع الرئيس بري والحزب عن دعم ترشيح النائب السابق سليمان فرنجية، ولذلك فاتح قوى المعارضة باقتراح التوافق على اسم مقابل، “وعندها صحتين على قلب يللي بيربح”، مسلّماً مسبقاً بصعوبة انتخاب فرنجية.
باسيل
هو سيناريو أقرب إلى مشهدية فرنجية-جهاد أزعور التي يمكن أن تقود مجدّداً إلى انقسام مجلس النواب عمودياً، مع تسليم مصادر نيابية بخطورة انتخاب رئيس للجمهورية من دون الصوت الشيعي. وهنا تكمن القطبة المخفيّة حول موقف الحزب من تحرّك باسيل الذي لم يفتتح مبادرته بلقاء أيّ مسؤول منه حتى الأمس، ، فيما كان لافتاً الإعلان عن اللقاء الذي جمع بين النائب فيصل كرامي (التقاه باسيل أمس) والمعاون السياسي لأمين عام الحزب الحاج حسين خليل وتسريب معطيات نقلاً عن الأخير تفيد بتمسّك الحزب بترشيح فرنجية.
تقول أوساط معنيّة بالحراك القائم لـ “أساس”: “يمكن اختصار المشهد العابق حالياً بالمبادرات بمعركة نصاب الثلثين، أي 86 نائباً
لوبي نيابيّ
فعليّاً، يحاول باسيل من خلال حراكه الرئاسي تشكيل لوبي نيابي ضاغط قوامه “التيار الوطني الحرّ” ونواب “كتلة الاعتدال” والحزب الاشتراكي ونواب مستقلّون لفرض الحوار ثمّ الانتخاب بغضّ النظر عن التفاهم على اسم أو مجموعة أسماء.
كان لافتاً في هذا السياق انضمام القوات، ممثّلة بالوزير السابق غسان حاصباني، إلى اجتماع الصيفي برئاسة النائب سامي الجميّل وحضور باسيل، فيما غرق الاجتماع وفق المعلومات ببعض الشكليّات المرتبطة بآليّة الحوار، حيث عرض باسيل فكرة تقديم تعهّد من جانب كلّ النواب بأن لا تشكّل الحوارات المحدودة السابقة للانتخاب عرفاً بل استثناء تفرضه الظروف الاستثنائية القائمة.
لكن وفق معلومات “أساس” وعلى الرغم من تضمين بيان الصيفي تسليماً بالقبول بمشاورات محدودة زمنياً، لا تزال عقدة رئاسة الرئيس بري للجلسات، حتى ولو لأسبوع واحد كما قال، تتحكّم بقرار بعض قوى المعارضة الرافضة بشدّة للجلوس إلى طاولة يديرها بري. أمّا السؤال الأكبر: هل يقبل بري بالدعوة إلى حوار بمن حضر ستقاطعه القوات حتماً مع بعض نواب المعارضة؟
“ديل” فرنجيّة
على المقلب الآخر، مقاربة رئاسية مختلفة تماماً قدّمها فرنجية في خطابه في ذكرى مجزرة إهدن محاولاً إعادة باسيل إلى ملعب الواقعية السياسية، واضعاً رئيس التيار الوطني الحر وخصومه أمام خيارين رئاسيَّين: أنا أو سمير جعجع بعد تسليمه بأنّ رئيس القوات هو الأكثر تمثيلاً مسيحياً.
خطاب إهدن الذي كرّس الخصومة المسيحية بين الثلاثي فرنجية-باسيل-جعجع المانعة حتى الآن لفرض المسيحيين “كلمتهم” على باقي القوى السياسية أسّس لمشهد أكثر تعقيداً واستكمالاً لمبادرات لم تُنتِج طحيناً رئاسياً بعد.
لم يأتِ ترحيب الرئيس نبيه بري بمبادرة باسيل من عدم، فقد تقصّد رئيس مجلس النواب التذكير بأنّ خصمه السابق عاد إلى قواعد عين التينة سالماً
في المقابل، تقول أوساط معنيّة بالحراك القائم لـ “أساس”: “يمكن اختصار المشهد العابق حالياً بالمبادرات بمعركة نصاب الثلثين، أي 86 نائباً، وهو يفوق بأهمّيته مسألة الحوار القائم فعليّاً اليوم لكن خارج جدران مجلس النواب. فالتعهّدات الكلامية كثيرة بالالتزام بالبقاء بالقاعة، وعلى رأسها تعهّد نواب حركة أمل والحزب، مع العلم أنّهم كانوا المساهمين الأساسيين في تطيير نصاب جلسات رئاسية سابقة، لكن في المقابل لا يوجد ضمانات فعليّة حتى اليوم بإكمال نصاب الثلثين ولا الالتزام به في الدورات المتتالية. وهذا الواقع فتح باب النقاش في احتمال انتخاب رئيس بـ 65 صوتاً بعد إكمال نصاب الثلثين للحضور”.
هنا يمكن أخذ المعلومة الحاسمة ليس من أفرقاء الداخل بل من أحد سفراء اللجنة الخماسية حين يقول: “صحيح أنّنا لا نتدخّل في خيارات النواب الرئاسية ولا نفرض اسماً، لكن نحن لا نوافق إطلاقاً على انتخاب رئيس للجمهورية بـ 65 صوتاً لأنّه سيكون عنوان انقسام حادّ سيدفع ثمنه اللبنانيون في السنوات الستّ المقبلة…ونحن لن نرتاح أيضاً”.