حركة مبادرات أشبه بجعجعة بلا طحين، تمخّضت عنها الأيام الأخيرة من الحراك النيابي والسياسي، انطلقت من هامش يتعلق بفقدان الثقة بين المتحاورين
في انتظار الانتخابات الرئاسية الإيرانية، بعد نحو أسبوعين، كأول المواعيد التي تؤثّر في مجرى الحدث اللبناني والإقليمي، لا يمكن الكلام عن أي تطور خارج المألوف في ما يتعلق بلبنان، عدا المنطقة. مع ذلك، ثمة إصرار محلي على لبننة الانتخابات الرئاسية، بعدما أضاعت القوى السياسية تلك اللحظة مع بدء الفراغ الرئاسي، فيما يتشابك الوضع اللبناني اليوم مع غزة أولاً، ومع سوريا وكل الساحات التي تؤثّر فيها إيران، وفيما العالم كله منشغل عن لبنان كأولوية.مفارقة هجمة المبادرات المحلية أنها تنطلق كلها من نقطة مشتركة، هي عدم ثقة الأفرقاء المعنيين ببعضهم. كما يجمع هذه المبادرات عنصرٌ واحد، هو ثقة المعنيين إياهم بعدم قدرتهم على انتخاب رئيس للجمهورية في الوقت الراهن. مع ذلك، تملأ القوى السياسية الفراغ الحالي بحركة أشبه بموسم المهرجانات الصيفية.
لا يثق الحزب التقدمي الاشتراكي ببعض من يلتقيهم، أو بإمكان توافق القوى المسيحية على مخرج للأزمة الرئاسية، ولا يثق التيار الوطني الحر بالقوات اللبنانية ولا بالمعارضة ككل، ولا حتى بأهل بيته الداخلي، وليست القوات أفضل حالاً. ولا يثق بعض المعارضين بالأحزاب ولو التقوا معها أحياناً على نقاط مشتركة محدودة بالزمان والمكان. ولا يثق معارضون متحاورون بما يقوم به التيار الوطني والاستدارة نحو الرئيس نبيه بري، ولأي غرض يتعدى الرئاسيات.
وفي الوقت نفسه يتفق هؤلاء، ولو انغمسوا في اللقاءات المشتركة، أن لحظة الانتخابات لم تحن بعد. وكلام النواب المشاركين خارج اللقاءات يعبّر تماماً عن أن ما يجري مجرّد لعب في الوقت الضائع. لكن ثمة نقطة يلتقي عليها معارضون، تتعلق بموقف حزب الله مما يجري من محادثات لا يرفضها، لا بل يشارك فيها.
ففي إزاء تعدّد المبادرات، يرتاح الثنائي الشيعي إلى أن الحركة القائمة تقف عند حدوده. ما يفعله حزب الله أنه يلتزم بالحوار تحت مرجعية الرئيس نبيه بري فحسب، لا بالانتخابات الرئاسية كمفصل سياسي. وهنا جوهر الخلاف بين اتجاهين سياسيين: أيهما أهم الحوار أم الرئاسة؟ بين أول طاولة حوار دعا إليها بري والحوار المشروط اليوم إشكالات وفوارق عدة. ما خلص إليه تمسك الثنائي بالحوار برئاسة بري، يعكس جانباً من أزمة الثقة الزائدة التي يمارسها الثنائي في خضمّ الفراغ الرئاسي الذي يقترب من عامه الثالث. وهذا ما يعني بالدرجة الأولى خصومه، لأنه مع كل فراغ رئاسي تتكرّس أساليب جديدة في إعادة الإمساك بمفاصل السلطة، بما يتعدّى حتى ما يُحكى اليوم عن العرف المستحدث في شأن فرض سابقة الحوار قبل الانتخاب. وفائض الثقة يتعلق بقاعدة أولى، تخالف عملياً ما يقوله الحزب بأن الرئاسة مفصولة عن غزة.
لأن الاهتمام الأول يبقى لغزة والجنوب استطراداً بالنسبة إلى الحزب، لا يمكن بعد تطورات الأيام الاخيرة جنوباً الكلام عن وضع الميدان من دون الأخذ في الاعتبار ما حصل وردود الفعل المتبادلة حيال حدث جويا، والحجم غير الاعتيادي في التعامل معه، من جانب الحزب. لأن الحدث يستكمل ارتباط الوضع الجنوبي بغزة وبما يمكن أن تحمله التهديدات الإسرائيلية أو يلجمها. وهذا يعزز أن الأولوية في مكان آخر.
تملأ القوى السياسية الفراغ الحالي بحركة أشبه بموسم المهرجانات الصيفية
ويضاف إليها الحدث الإيراني الذي يبدأ بالرئاسيات ويُستكمل بوضع الملف النووي مجدداً في دائرة الضوء الأوروبي والأميركي، ما يجعل الأزمة اللبنانية تراوح مكانها. لكن الحزب لا يضيره في هذا الوقت استكمال مسار تحقيق مكاسب، تُترجم عندما تقترب لحظة الحل. بالنسبة إلى معارضيه، فإن الخطاب الانتقالي للتيار اليوم إحدى الخطوات، بعد تجميع شخصيات مسيحية أصبحت تدور في فلك الحزب كذلك، عدا إمساكه بورقة التفاوض عن لبنان في حالتي الحرب والسلم. وكلما تضاعفت الأحداث، ازداد تمسك الحزب بما حقّقه لينطلق منه إلى تقدّم آخر، يعكس واقع أنه ينتظر تحولاً يصب في ترتيب ما لمصلحته. ما يقوله معارضو الحزب هو العكس تماماً، لأن فائض الثقة بحصول هذا الترتيب لا يعكس واقع ما يصل إلى بعض دوائرهم من أن أي حل يبدأ بغزة، لن ينتهي في لبنان لمصلحة الحزب. لكن مشكلة معارضي حزب الله أن أيديهم مكبّلة، في انتظار جلاء أكثر للاتجاه الذي تقوده واشنطن والسعودية في المنطقة، سواء مع إسرائيل أو مع إيران، وفي انتظار ما ستسفر عنه حقيقة المفاوضات في غزة قبل وصولها إلى لبنان، ما يجعل الأفرقاء المعارضين أكثر تريّثاً في الإقدام على خطوات تكسر المراوحة الحالية. في حين يتصرف حزب الله، رغم الإرباكات الناجمة عن أشهر الحرب والتوترات الإقليمية، على أنه مرتاح أكثر إلى أن معارضيه لا يملكون بعد عدّة المواجهة ولا كلمة السر الخارجية.