سجلت أرقام الإصابات بمرض الإيدز في لبنان ارتفاعا مقلقا بشكل غير مسبوق، بعدما كان يحتل أدنى المراتب بين دول العالم، وبحسب تقارير إخبارية وتصريحات الجمعيات المعنية بالمرض، فإن الارتفاع المفاجئ في عدد الإصابات فتح النقاش بشكل واسع حول هذا المرض، الذي يرتبط في أذهان الناس بالعلاقات الجنسية ما يعني وصمة عار ترافق المصابين به وربما تمنعهم من تلقي العلاج.
وكشفت تقارير أن أسباب انتشار الإيدز مؤخرا تعود إلى التفلت الحاصل في الميادين كافة، إن كان على صعيد الصحة، أو على صعيد رسم الوشم (التاتو)، إذ إن هذين العاملين يعتبران من أكثر العوامل تأثيرا في ارتفاع الإصابات خلال الفترة الأخيرة. أما العلاقات الجنسية غير المحمية، فلم تسجل الإصابات بمرض “الإيدز” أرقاما كبيرة في لبنان، على عكس دول العالم.
وأجرت جمعية “براود ليبانون” استبيانا بالتعاون مع 58 شخصا متعايشا مع الفايروس، (68.3 في المئة منهم لبنانيون، 10 في المئة فلسطينيون وسوريون 21.7 في المئة) 98.3 في المئة منهم ذكور، والبقية عابرون جنسيون.
وأظهرت الدراسة أن 80 في المئة منهم أخبروا عائلاتهم، مع نسبة قبول 68 في المئة، كما أفصح 66.7 في المئة منهم عن إصابتهم لشركائهم وقد تقبلوا ذلك، وأفصح 55.6 في المئة منهم عن إصابتهم لزملائهم في العمل، مع تباين في ردود الفعل، حيث واجه 22.2 في المئة إنهاء العمل أو التهديد بذلك.
وعن أسئلة تخص شعورهم بالأمان، أجاب 86.7 في المئة من المشاركين أن لبنان بلد آمن للمتعايشين مع فايروس الإيدز كما اعتبر 55 في المئة منهم أنهم مضطهدون اجتماعيا لكونهم من فئة مجتمع “ميم – عين” ومتعايشون مع الفايروس.
وفي ما يتعلق بالخدمات التي يحصلون عليها، كشف 57.5 في المئة من المشاركين أنهم يتلقون الأدوية اللازمة، و25 في المئة منهم يحصلون على دعم من المنظمات والجمعيات غير الحكومية، فيما يجري 12.5 في المئة منهم اختبارات الفايروس بانتظام، ويحصل 5 في المئة منهم على علاجات متقدمة.
أما في ما خصّ التحديات في مجال الرعاية الصحية، فقد أعلن 43 في المئة من المشاركين أنهم واجهوا رفض تقديم الخدمات الطبية في مؤسسات الرعاية الصحية بسبب إصابتهم بالفايروس، فيما لم يُطلب من 81 في المئة من المشاركين دفع رسوم إضافية لخدمات الرعاية الصحية بسبب إصابتهم، ولم يواجه 70 في المئة من المشاركين العزلة من قبل مقدمي الرعاية الصحية بسبب إصابتهم.
وتضمّن الاستبيان سؤالا حول تجربة المتعايشين مع فايروس نقص المناعة البشرية مع فايروس كورونا، فتبين أن غالبية المشاركين، 77 في المئة، لم يصابوا به، ولم يحتج 88 في المئة من الذين أصيبوا إلى دخول المستشفى.
لكن ما يثير القلق، بحسب الدراسة، أن 18 في المئة من المشاركين واجهوا أطباء نفسيين تجنبوا تقديم الرعاية الصحية النفسية لهم، مما يشير إلى وصمة عار محتملة داخل خدمات الصحة النفسية، كما أفاد حوالي 14 في المئة بأن الأطباء النفسيين إما أخّروا علاجهم أو رفضوه بالمطلق، ما يسلّط الضوء على التحديات التي تواجه تلقي الدعم النفسي المناسب وفي الوقت المناسب.
وتلقى 62 في المئة من المشاركين في الاستطلاع الدواء أو الاستشارة الطبية من مركز واحد، مما يشير إلى اتباع نهج أكثر مركزية في الرعاية الصحية للأفراد المتعايشين مع الفايروس.
وحول اتخاذ الاحتياطات اللازمة لمنع انتقال العدوى، أكد 74 في المئة من المشاركين أنهم ملتزمون بذلك، ونفى 81 في المئة منهم خشيتهم من الموت الوشيك بسبب الفايروس، وأعلن 34 في المئة منهم أنهم يعيشون وحدهم فيما يسكن 51 في المئة مع عائلاتهم و15 في المئة مع شركائهم.
ويكشف الاستبيان بحسب رئيس جمعية براود ليبانون، برتو مقصو، عن “معاناة المتعايشين مع الفايروس من اضطهاد ووصم وتمييز اجتماعي يطال حقوقهم الإنسانية، مما يشكّل انتهاكا واضحا للحريات الشخصية والحقوق الأساسية المذكورة في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والمعاهدات الدولية التي تبناها لبنان وحرص على احترامها وتكريسها في دستوره”.
ورغم ذلك يعكس الاستبيان، كما يقول مقصو لموقع “الحرة”، “خطوات إيجابية في مواجهة الوصمة، لكن لا تزال التحديات قائمة لاسيما في أماكن العمل، مما يُؤكّد الحاجة إلى بيئات مهنية داعمة”.
كما ظهر أن التمييز تجاه المتعايشين مع الفايروس يطال المجال الطبي، ويقول مقصو “أطباء يخشون تقديم الخدمات لهم بسبب جهلهم بطريقة انتقال العدوى، عدا عن أنه من واجبات الأطباء اتباع وسائل الحماية الطبيعية كون هناك فايروسات عدة يمكن أن تنقل إليهم أخطر من الإيدز”.
ورغم ردود الفعل في المجتمع لناحية الخشية من الخوف ووصمة العار، تزداد التوعية بخطورة الإصابة عبر طرق مختلفة وكذلك الخضوع لاختبارات، سواء عبر البرنامج الوطني لمكافحة الإيدز أو من خلال جمعيات تُعنى بالتوعية الصحية الجنسيّة والإنجابيّة.
وتشدّد مديرة جمعية العناية الصحية المجتمعية الشاملة في لبنان “سيدك” رانيا بدران على أهمية توعية الشباب حول الفايروس وطرق الوقاية منه، مشيرة إلى “إقبال متزايد في الفترة الأخيرة على الخضوع لفحوصات الكشف يصل إلى 500 اختبار على الأقل شهريا، غالبيتهم من الجيل الشاب ممن تتراوح أعمارهم بين 20 و28 سنة”.
وتربط هذا الإقبال بـ”التركيز الدائم على التوعية إما عبر مواقع التواصل الاجتماعي أو عبر تنقلات ميدانية في بيروت ومناطق الشمال وجبل لبنان، نسعى من خلالها لتشجيع المواطنين على الإقبال لإجراء الفحوصات، لا للاطمئنان على سلامتهم الصحية فحسب، بل أيضا لحصولهم على المعلومات المطلوبة لحماية أنفسهم من الأمراض المنقولة جنسيا، من ضمنها الإيدز والوصول إلى وسائل الوقاية التي تحمي خلال العلاقات الجنسية والعلاجات المطلوبة”.
ووفق بدران، تتولى الجمعية متابعة حالات الأشخاص في حال جاءت نتيجة فحوصاتهم إيجابية لضمان وصولهم إلى العلاج بأسرع وقت ممكن، وإطلاعهم على الإجراءات المناسبة لحماية أنفسهم والمحيطين.
وتوضح أن “العلاج متوفّر مجانا في مركز وزارة الصحة العامّة التي تلعب دورا من خلال البرنامج الوطني في تقديم مجموعة من خدمات التشخيص والوقاية والعلاج المتنوعة بما في ذلك رفع وعي الأشخاص الأكثر عرضة للخطر”.
ويشدد المعنيون في هذا المجال على ضرورة إجراء الاختبارات بشكل دوري خصوصا “عند ممارسة أي علاقة جنسية غير محمية أو عند تشارك حقن، على غرار من يتعاطون المخدرات مثلا، وذلك بعد ثلاثة أسابيع على تعرضهم للخطر”.
وتتوقّف لينا صبرا، المديرة التنفيذية لجمعية سلامة التي تُعنى بتقديم خدمات الصحة الجنسيّة والإنجابيّة في البقاع عبر عيادتين ومن خلال مكتبها في بيروت، عند أهمية تكرار الفحوصات، كونها تجعل الشخص مدركا لحالته وتخفف من انتشار الفايروس، وتساعد في علاج المصاب في أولى مراحله في حال أتت نتيجة الاختبار إيجابية.
وتمكنت الجمعية خلال عام 2022 من إجراء 400 اختبار في مناطق عدة، تتراوح أعمار أصحابها بين 18 و30 سنة، مشيرة إلى الدور الذي تلعبه التوعية عبر مواقع التواصل الاجتماعي حول المرض وتوفر الاختبار الذاتي في إقبال الناس على مراكز الجمعية.
وتشدّد صبرا على أنّ من شأن “التوعية والحصول على معلومات صحية دقيقة أن يزيدا دوافع الأفراد إلى الاطمئنان على سلامتهم، خصوصا الشباب دون 24 عاما”.
ورغم الموارد المالية والبشرية المحدودة التي يعاني منها لبنان خلال أزمته الحالية، فإن برنامج العمل الوطني لا يزال يستجيب بفعالية، ويعطي الأولوية للأشخاص الأكثر حاجة بغض النظر عن جنسيتهم ووضعهم القانوني، عبر تقديم مجموعة من خدمات التشخيص والوقاية والعلاج المتنوعة بما في ذلك زيادة الوعي لدى الأشخاص الأكثر تعرضا للخطر.
ويوضح الاختصاصي في الأمراض الجرثومية والمعدية ورئيس الجمعية اللبنانية لمرضى الإيدز في لبنان الدكتور جاك مخباط لموقع “مهارات نيوز” أن “عدد الإصابات ما زال مقبولا. وصلنا إلى مرحلة مستطيلة في الأعداد، لكنه ينتقل بين أفراد مجتمع الميم – عين”.
ويرى أن “الأهم في هذا المجال هو أن نتوقف عن التمييز والوصم في المجتمع والتركيز على التوعية والوقاية، خصوصا بسبب السلوكيات الحياتية والمجتمعية غير المضبوطة وقلة الوعي والاستهتار، ما يزيد من خطورة الإصابات”.
ويتطرّق مخباط إلى الفحص الشخصي الذي “يضمن للفرد سرية النتيجة وألا يتعرض لوصمة” رغم أن ” تشخيص النتيجة لا يعد نهائيا، وبالتالي يجب إجراء فحص تأكيدي في المختبر”.
ويشدد على أنه في حال ثبتت الإصابة “فليست نهاية الدنيا مع وجود علاجات تساعد على السيطرة على الإصابة وتساعد على عيش حياة طبيعية لأقصى وقت”، لافتا إلى أهمية أن “يلجأ الأشخاص إلى الطبيب أو الجمعية المهتمة أو البرنامج الوطني”.
ويواجه المتعايشون، وفق مقصو، تحدّيات عديدة. وتعمل منظمته “على تقديم الدعم اللازم نفسيا وطبيا للمتعايشين مع المرض وتحديدا لأفراد الميم – عين”، داعيا إلى “عدم الخوف من إجراء الفحوصات خصوصا وأن برنامج مكافحة الفايروس متكامل ومجهّز، والفحوصات سرية ومؤمّنة، ويبقى الأهم الوقاية والثقافة والابتعاد عن عالم المخدرات ومعرفة كيف نحمي أنفسنا”.
وأوضح مخباط أن تطوير العلاج قد يريح المتعايشين مع الفايروس، لكن تبقى دائما الوقاية أولا، لذلك لا بدّ من الابتعاد عن الإهمال والاستهتار بأي حادثة أو واقعة تحصل، وعلى كل شخص يقوم بعلاقات جنسية غير محمية أن يسارع إلى إجراء فحص مخبري.
وتوفّر وزارة الصحة الفحوصات مجانا، وهي تعمل حاليا على توزيع الفحوصات السريرية والمخبرية للوصول إلى أكبر عدد ممكن من الأشخاص.
ويقول مخباط “كلما تمّ الكشف مبكرا عن الإصابة، يسمح ذلك للعلاجات المتوفرة بضبط المرض وتداعياته لأطول فترة ممكنة”.