الرصاصُ في بنسلفانيا، ولكن أزيزَه «سُمع» في كل العالم، بما في ذلك لبنان، الذي انشدّ إلى محاولةِ اغتيالِ الرئيس الأميركي السابق والمرشّح في السِباق الحالي إلى البيت الأبيض دونالد ترامب وارتداداتها على مستوى «بلاد العم سام» التي مرّت بساعاتٍ عصيبة كانت معها «عيْناها» على الحدَث الدراماتيكي ووقائعه، و«قلْبها» على تداعياته، هو الذي وَقَع على فالق انقسامٍ داخلي عميق وتشقّقاتِ سياسية ومجتمعية وأكثر استُحضرت معها مخاوف ومناخاتٍ من زمن الحرب الأهلية الأميركية ودفاترها السود.
ومع نجاة ترامب من موتٍ ابتعدَ عنه سنتيمراتٍ قليلة والتعاطي مع الرصاصة التي أصابتْ أذنَه على أنها «رصاصة الرحمة» على الرئيس الحالي جو بايدن وحظوظ بقائه حصانَ «الحمار الديموقراطي» في الانتخابات كما على احتمالات فوز أي مرشّح بديلٍ، وذلك في ضوء رمزياتٍ «ذهبية» لتَغَمُّس حملة ترمب الانتخابية بالدم الذي سال منه وخروجه من «امتحانِ النار» بقبضةٍ مرفوعةٍ في ظلال العلم الأميركي وكأنها صورة انتصاره الآتي، لم تتأخّر مقاربةُ هذا التطور المثير في بيروت من زاويةٍ أبعد من الدلالاتِ المباشرة والداخلية (الأميركية) لـ «العنف السياسي» الذي أطلّ برأسه من خلْف العياراتِ التي أَفْلتَ منها الرئيس السابق ومعه بلاده التي لامستْ حافةَ الوقوع في المحظور.
وكما في الإقليم الذي بدا وكأنه بات ينظر الى ترامب على أنه الرئيس المقبل للولايات المتحدة «مع وقف التنفيذ»، فإن هذه الخلاصة حضرتْ في لبنان مع فارقِ أنها أُسقطتْ في شكل خاص على حرب غزة ومُلْحقها على جبهة الجنوب وذلك في ضوء ارتفاع الخشيةِ من أن تكون التهدئةُ عليها ابتعدتْ نحو 10.800 كيلومتر هي أقصر مسافة جواً بين الولايات المتحدة وفلسطين.
فبعدما كانت مذبحة خان يونس وضعتْ مفاوضات الهدنة في غزة أمام منعطف حَرِج بدا معه أنها انتهتْ وإن من دول إعلانٍ، بفعل ما عبّرت عنه من إصرار بنيامين نتنياهو على أجندته في ما خص القطاع ومستقبله «من دون حماس»، جاءتُ عملية بنسلفانيا والدفْع الذي يُفترض أن تعطيه لترامب وحملته الرئاسية لتعزّز الاقتناعَ بأن رئيس الوزراء الإسرائيلي سيَمْضي في «ما كتبه» لجبهة غزة وسط قلقٍ من أن يذهبَ أبعد في «محو» القطاع مستفيداً من الاستنزاف الذي سيزيد لقدرةِ بايدن على التأثير في مجرياتِ الأحداث، وهو المعطى نفسه الذي يمكن أن تنسحب «حساباته»، الهجومية أو الدفاعية، على جبهة لبنان من طرف تل أبيب كما «محور الممانعة».
وغداة ما نُقل عن رئيس الوزراء الإسرائيلي من «اننا عازمون على تغيير الواقع العسكري في الشمال لأجيال، ولن نقبل باستمرار الوضع في الشمال وسنعمل على إعادة المواطنين إلى منازلهم بطريقة أو بأخرى»، بالتوازي مع كلامٍ للرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون اشار عن «مَخاطر محدقة بلبنان صديق فرنسا، ولكن نحن لن نتركه» مؤكداً «وجوب ضمان أمن لبنان وتطبيق القرار 1701 بالكامل»، بقيت كل الاحتمالات واردةً في ما يتعلّق بمصير جبهة الجنوب التي برز أمس ان اسرائيل انتقلتْ عليها إلى مرحلة من استهدافاتٍ عن سابق تصوُّر وتصميم لبنى تحتية لبنانية، مع قصفها المدفعي لمحطة كهرباء مرجعيون التي أصيبت «بأضرار جسيمة طالت المحولات والخلايا وشبكات التوتر العالي وخروجها بالتالي من الخدمة»كما أفادت «مؤسسة كهرباء لبنان».
وفي حين واصل «حزب الله» عملياته ضدّ مواقع وتجمعات عسكرية إسرائيلية مستخدماً صواريخه الثقيلة من «فلق» و«بركان» و«جهاد» (من عائلة البركان الثقيل واستُعمل للمرة الثانية يوم السبت)، إلى جانب استهدافه أمس «بِسرب من المسيَّرات الانقضاضية مقرَّ قيادة الفرقة 91 المُستحدث في اييليت»، فإن أوساطاً مراقبة رأت، وبعيداً من الوقائع اليومية في الميدان والدبلوماسية، أن حربَ الاستنزاف الدائرة على جبهة لبنان مرشّحةٌ للاستمرار طويلاً في ضوء الاقتناع المتزايد لدى الجميع بأن نتنياهو، الذي يناور كثيراً ويفاوض قليلاً، يخطط للمضيّ في الحرب على غزة، في انتظار تحقيق انتصارات تكتية أو حصول تحولاتٍ من النوع الذي يتيح إطلاقَ يده، كانتخاب ترامب، وذلك لفرض شروطه والبقاء تالياً في الحُكم.
وفي رأي الأوساط المراقبة أن هذه المقاربة تنطوي في خلاصتها على مأزقٍ مزدوج: أولاً لنتنياهو، الذي يُكْثِر من التهديدات بمكبرات الصوت لـ «حزب الله» وضدّ لبنان، في ظل اعتقادٍ بأنه لن يغامر بأي حرب واسعة على جبهته الشمالية. والمأزق الثاني للحزب نفسه الذي لن تُفْضي حرب المساندة لغزة التي بدأها قبل 9 أشهر ونيف إلى إنقاذ ما تبقى من غزة أو الحؤول دون إلحاق الخسائر المؤلمة بـ «حماس» ما دام نتنياهو ماضيا في حربٍ بلا هوادة، الأمر الذي يطرح علامات اسفتهام حول الخيارات المتاحة أمام الحزب ووعده بمنْع هزيمة الحركة.
وفي تقدير الأوساط عيْنها أن نتنياهو، الذي يدير بنفسه الحرب والتفاوض في غزة، من المرجح أن يكتفي في المرحلة الراهنة بما «يفاخر به» من حرب اغتيالاتٍ ضد قادة من «حزب الله» رغم فرضياتٍ عدة مطروحة على الطاولة كـ «الأيام القتالية» لإبعاد الحزب عن الحافة الحدودية بعمق ما بين 8 و10 كيلومترات، أو «الحرب الذكية» ذات الطبيعة العسكرية المحض ضدّ ترسانة الحزب وبناه التحتية لتجنّب استدراج الحزب لضرْب «بنك الأهداف» الحيوي (داخل اسرائيل) الذي لطالما لوّح به، أو الحرب بمعناها الواسع التي لا يمكن إسقاطُها من الحسبان رغم تضاؤل احتمالاتها. أما السؤال الذي من المرجّح أن يزداد حضوراً في المرحلة المقبلة فهو كيف يمكن لـ «محور الممانعة» بقيادة «حزب الله» فرْض قواعد جديدة من شأنها إرغام نتنياهو على وقْف حرب «تصفية» غزة و«حماس» ودفْعه للانصياع أقلّه إلى السير قدماً بالمفاوضات الدائرة حول مقترح بايدن، وخصوصاً أن اسرائيل المأزومة على جميع المستويات نجحتْ حتى الآن في التعايش مع أكلاف جبهات الإسناد على محاور لبنان واليمن والعراق.