طرح فريق رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي نسخة جديدة من خطة “إعادة هيكلة القطاع المصرفي” هي بأبسط تعبير مصادرة لأموال المودعين، وإخراج الدولة والبنوك وأثرياء الأزمة منها سالمين.
الملاحظة الأوّلية أنّ الحافز لطرح النسخة الجديدة ليس إلّا تحرير المصارف من أثقال “الودائع القديمة”، لإطلاق يدها في فتح صفحة جديدة تتيح لها العودة إلى أعمالها الطبيعية من تسليف واستقبال ودائع بلا قيود، ومن دون تحمّل مخاطر الدعاوى القانونية تجاه “قدامى المودعين” أمام المحاكم في الداخل والخارج.
لقد تعزّز هذا المسار عمليّاً بتشريع أنظمة خاصة لـ”اللولار” لإسقاط الحقّ القانوني الأصيل للمودعين للمطالبة بودائعهم بالعملة التي أودعوا بها، وهي الدولار الأميركي. بدأ الأمر بتعاميم مصرف لبنان التي شرّعت وجود “الدولار الفرش”، ثمّ بالسماح بتشريع وجود شيكات جديدة تختلف في وصفها القانوني عن شيكات اللولار، وانتهى الأمر بقرار مجلس الوزراء الأخير الذي “أخذ علماً” بتشريع وجود عملة جديدة اسمها “الدولار المحلّي” لها سعر صرف محدّد بـ 15 ألف ليرة، وتسري على قيود الخزينة العامة والودائع القديمة.
الحافز لطرح النسخة الجديدة ليس إلّا تحرير المصارف من أثقال “الودائع القديمة”، لإطلاق يدها في فتح صفحة جديدة تتيح لها العودة إلى أعمالها الطبيعية
كلّ هذه الهرطقات التشريعية، بكلّ ما ترتّبه من آثار على الذمم المالية والحقوق والالتزامات بعشرات مليارات الدولارات، تجري من دون أن يصوّت عليها مجلس النواب أو يدلي برأي فيها.
النسخة الأحدث من خطّة إعادة هيكلة القطاع المصرفي التي أعدّها مستشار رئيس حكومة تصريف الأعمال نقولا نحاس تستكمل هذا المسار، بذهنية ترمي إلى تبييض السجلّ القانوني والمحاسبيّ للمصارف، ورسم خطّ فاصل بين “ما قبل” و”ما بعد”.
سحق الودائع فوق 500 ألف $
يطرح نحاس عنواناً أساسياً لخطّته هو “إعادة كامل الودائع لـ85% من المودعين”، من منطلق أنّ عدد المودعين الذي تبلغ ودائعهم 100 ألف دولار أو أكثر لا يتجاوز 153 ألف مودع، من أصل مليون مودع تقريباً. ويزعم أنّ هؤلاء سيحصلون على حقوقهم “بالكامل”، بشرط أن تكون ودائعهم “مؤهّلة”، لكن بالتقسيط الشهري على مدى 11 عاماً. فيما يحصل الآخرون على جزء من ودائعهم بمزيج من “هيركات” قاسٍ و”ليلرة” وتحويل الودائع إلى أسهم في البنوك أو سندات بلا فائدة.
في ما يتعلّق بما يفوق 500 ألف دولار من الودائع، تستسهل الخطّة سحقها من خلال مزيج من الإجراءات الكثيرة التعقيد والقليلة الجدوى، ويمكن تلخيصها بما يلي:
– تحويل الودائع إلى أسهم البنوك (Bail-in)، وهو إجراء عديم الجدوى لأنّ رؤوس أموال المصارف لا تساوي شيئاً إذا قورنت بحجم الودائع التي سيتمّ تحويلها إلى هذا الإجراء، والبالغ 9.4 مليارات دولار، ما بين مؤهّلة وغير مؤهّلة. بل تبلغ الوقاحة بالخطّة أن تضع حدّاً أقصى لعملية استبدال الودائع بالأسهم، لا يتجاوز 33% من رأس المال!
مدّة التقسيط الطويلة والنمط التصاعدي الذي يبدأ بقسط صغير ثمّ يزداد تدريجياً، هما بحدّ ذاتهما “هيركات” قاسٍ
– تحويل جزء من الودائع إلى “سندات مرؤوسة” لأجل 12 سنة، بمعدّل 5 إلى 1، للودائع المؤهّلة، و10 إلى 1 للودائع غير المؤهّلة، أي بهيركات يراوح بين 80% و90%.
– وأخيراً، تحويل جزء من الودائع إلى سندات “زيرو كوبون”، أي من دون فائدة لأجل 20 أو 30 سنة، وتحويل ما بقي على صندوق استرداد الودائع.
مخطّط احتياليّ… على 11 عاماً
ليست الخطّة أكثر من مخطّط احتيالي لتشريع أكل الودائع بالباطل، وهنا بعض أوجه الحيلة فيها:
الزعم أنّ الودائع حتى 100 ألف دولار ستعود بالكامل مزحة سمجة. فالخطّة تضع جدولاً زمنياً لتقسيط الودائع على مدى 11 سنة، يبدأ بسداد 400 دولار شهرياً في السنة الأولى، ثمّ يرتفع تدريجياً حتى يصل إلى 800 دولار في السنة الأخيرة، أي أنّ المودع يحصل على الـ 100 ألف دولار وفق الجدول التالي:
8% من المبلغ في السنة الأولى (400 دولار شهرياً).
6% في كلّ من السنوات الثانية والثالثة والرابعة (500 دولار شهرياً).
2% في كلّ من السنوات الخامسة والسادسة والسابعة (600 دولار شهرياً).
4% في كلّ من السنوات الثامنة والتاسعة والعاشرة (700 دولار شهرياً).
6% في السنة الحادية عشرة (800 دولار شهرياً).
اللعبة هنا أنّ مدّة التقسيط الطويلة والنمط التصاعدي الذي يبدأ بقسط صغير ثمّ يزداد تدريجياً، هما بحدّ ذاتهما “هيركات” قاسٍ، لأنّ “قيمة الوقت” (time value of money) تلعب لمصلحة البنك على حساب المودع، باعتبار أنّ التضخّم يأكل من قيمة الأموال عاماً بعد عام. فبحسبة بسيطة، لن يحصل المودع على أكثر من 23% من وديعته في السنوات الأربع الأولى، ونحو 44% في السنوات السبع الأولى. وإذا أضفنا السنوات الخمس الماضية منذ انفجار الأزمة، فإنّ المودع يحتاج إلى 16 سنة لاستعادة مبلغ الـ 100 ألف دولار. وقيمة هذا الوقت تمثّل نسبة “هيركات” تراوح بين 40% و50%، سواء باعتبار التضخّم أو الفائدة الفائتة خلال هذه الفترة.
هناك إشكال أخلاقي في تعامل الخطة مع الودائع التي تفوق الـ 500 ألف دولار. فنحاس يولي اهتماماً كبيراً لتوزيع المودعين على شرائح بحسب قيمة ودائعهم
“هيركات” 64% على 46 مليار $
بالتالي، فإن الحديث عن إعادة الـ 100 ألف دولار كاملةً محض هراء لمن لديه حدّ أدنى من المعرفة الماليّة.
تصنيف الودائع بين مؤهّلة وغير مؤهّلة يحتاج إلى الكثير من إعادة النظر. فالخطّة تضرب 46 مليار دولار من الودائع بتصنيفها “غير مؤهّلة”، لتبرّر تطبيق “هيركات” عليها بنسبة 64%. بحيث يستعيد المودع 36 ألف دولار فقط منها. وحتى هذا المبلغ لا يحصل المودع عليه كاملاً بالدولار، بل يحصل على 24 ألفاً بالدولار، والباقي بالليرة على سعر صرف 89,500. ومن يدري إن كان سعر الصرف سيستقرّ عند هذا السعر لـ11 سنة! الإشكال هنا أنّ تصنيف “الودائع غير المؤهّلة” فضفاض جداً، إذ إنّه يشمل 53% من الودائع، بذريعة أنّها تحوّلت إلى الدولار بعد 17 تشرين، أو أنّها دخلت الحساب بشيكات مصرفية. ومعلوم أنّ الأشهر الأولى من الأزمة شهدت حركة كبيرة للنقل بين الحسابات وبيع الأصول بشيكات مصرفية بفعل حركة الشائعات وضبابية الصورة في تلك الفترة.
المبالغ بين 100 ألف دولار و500 ألف دولار تطبّق عليها خطة نقولا نحاس “الليلرة” مع “هيركات” مباشر بنسبة 55% للودائع المؤهّلة، و70% للودائع غير المؤهّلة، بحيث يتمّ السحب على سعر صرف 41 ألف ليرة للدولار للودائع المؤهّلة، وعلى سعر 27 ألف ليرة للودائع غير المؤهّلة، مع التقسيط لـ11 سنة. وحقيقة الأمر أنّ الهيركات سيكون أكبر بكثير لأنّ استقرار سعر الصرف عند المستويات الحالية ضرب من التمنّي. يكفي أنّ “ستاندر أند بورز” تتوقّع وصول سعر الصرف إلى 153 ألف ليرة خلال خمس سنوات. فإذا تحقّق هذا التوقّع فسترتفع نسبة الهيركات إلى 74%. ومن غير المستبعد على الإطلاق أن ترتفع إلى 90% أو أكثر من الآن حتى نهاية السنوات الإحدى عشرة.
411 شخصاً يملكون أكثر من 10 ملايين $
هناك إشكال أخلاقي في تعامل الخطة مع الودائع التي تفوق الـ 500 ألف دولار. فنحاس يولي اهتماماً كبيراً لتوزيع المودعين على شرائح بحسب قيمة ودائعهم. وهو سعيد بأنّ عدد المودعين الذين تفوق ودائعهم 500 ألف دولار لا يتجاوز 26 ألفاً، أي نحو 2.6% فقط من المودعين. بل ربّما أهمّ ما في الخطّة ذلك الجدول الذي يُظهر أنّ عدد المودعين الذين تتجاوز قيمة ودائعهم 10 ملايين دولار لا يتجاوز 411 شخصاً. ربّما تتعامل معهم السلطة على أنّهم أقلّية لا حيلة لها، خصوصاً إذا تبيّن أنّ معظمهم من المغتربين غير المرتبطين بمراكز النفوذ في الطبقة السياسية.
الحديث عن إعادة الـ 100 ألف دولار كاملةً محض هراء لمن لديه حدّ أدنى من المعرفة الماليّة
الفكرة المريضة هنا هي أنّ محدودية عدد هؤلاء تسمح بانتهاك حقوقهم. وتلك فكرة شيوعية بائدة من عهد تأميم ممتلكات الأثرياء، مع فارق أنّ التأميم يحصل هنا ليس لمصلحة البروليتاريا، بل لمصلحة الأثرياء القدامى والجدد، من النافذين الذين استفادوا من سداد قروض بـ350 مليار دولار باللولار وتجارة الشيكات.
أسوأ ما في الخطّة أنّها لا تولي أيّ اهتمام بالمبدأ القانوني الأساسي، المتمثّل بمسؤولية البنوك تجاه مودعيها، ولا تتطرّق من قريب أو بعيد إلى الفساد الذي حدث في تهريب الأصول، وتوزيع الأصول العقارية المرهونة على النافذين، ولا تقدّم أيّة أدوات عمليّة لإجبار أصحاب البنوك على إعادة رسملة مؤسّساتهم وتحمّل قسطهم من أعباء الأزمة، ولا تلتفت إلى شبهة الفساد أو النيّة الجرميّة في فتح الحبل على الغارب لتجارة الشيكات. بل إنّها تعتني فقط بعدم انخفاض حصّة ملّاك البنك دون الـ77% بعد رسملة 9.9 مليارات دولار من الودائع!
حماية “أثرياء الأزمة”
المشكلة في الخطّة أنّها صيغت في ظلّ عدم توازن للقوى المتضرّرة والمستفيدة من إعادة توزيع الثروة التي جرت في سنوات الأزمة. فأصحاب النفوذ هرّبوا ودائعهم، أو هم في الغالب من الفئة المستفيدة التي سدّدت قروضها بثمن بخس. ولا مصلحة لها بوضع سقف لما يتحمّله المودعون من الخسائر.
لا بدّ لأيّ حلّ منطقي أن ينطلق من تحديد مسبق لسقف مساهمة المودعين في تحمّل الخسائر، سواء كان 10 مليارات دولار أو 20 ملياراً أو 50 ملياراً. ومن بعدها يُنظر في كيفية توزيع الخسائر على الأطراف الأخرى: البنوك والدولة ومصرف لبنان والمستفيدين من الأزمة ومجمل دافعي الضرائب.
شعار شطب الخسائر من دون تحميل الدولة ومصرفها المركزي وأملاكها العامّة أيّ عبء، فهو فارغ من أيّ مضمون أخلاقي
لكن ما يجري الآن هو الانطلاق من أنّ الخسارة واقعة بكاملها على المودعين، كأمر واقع، ثمّ يُنظر في ما يمكن للأطراف الأخرى تقديمه لصندوق التبرّعات لتعويضهم القليل من خسائرهم.
يجب أن يكون المنطلَق تحديد حجم مساهمة المودعين في تحمّل الخسائر، ثمّ تحديد كيفية توزيع هذه الخسارة على المودعين بحسب أحجام ودائعهم وأهليّتها ومصادر الأموال. لكن في كلّ الأحوال يجب أن تبقى الوديعة وديعة، تقبل “الهيركات” وتقبل التقسيط على عدد محدود من السنوات، لكن لا يصحّ تحويلها إلى أدوات ماليّة أخرى، سواء أسهم عديمة القيمة أو سندات “زيرو كوبون” أو أيّ شيء آخر، لأنّ المودع وضع أمواله في وعاء يفترض أنّه “صفر مخاطر”، ولا يصحّ إدخاله في تعقيدات استثمارية لا يفهمها ولم يقرّر الدخول فيها أصلاً.
الدولة استفادت بـ60 مليار $
أمّا شعار شطب الخسائر من دون تحميل الدولة ومصرفها المركزي وأملاكها العامّة أيّ عبء، فهو فارغ من أيّ مضمون أخلاقي، أقلّه لأنّ الدولة استفادت من الأزمة بشطب نحو 60 مليار دولار من ديونها بالليرة اللبنانية، بفضل انهيار سعر الصرف. كما استفادت من وقف دفع استحقاقات اليوروبوندز وانهيار قيمة رواتب القطاع العام. فلا يمكن لها الفوز بالغُنم والنأي عن الغُرم.