على جمر الحرب يسير اللبنانيون منذ 8 أكتوبر الماضي، يتأرجحون مع تقلّباتها بين هبّة باردة وهبّة ساخنة، ويعاودون مع كل «ارتقاءٍ» في جولاتها ضبْطَ «وضعيةِ التكيّف» بإزاء واقعٍ باتت البلاد برمّتها ترتدي معه «المرقّط»، وكأن كل عجلات الاقتصاد والسياحة والحياة اليومية باتت تجرّها عربةُ مواجهةٍ عسكرية لا مكان للدولة في «قمرة قيادتها».
وإذا كان لبنانيو الداخل احترفوا الرقصَ على «حافةِ الهاوية» وتَأَقْلَموا مع قرقعةِ «حرب المشاغَلة» وتَبَدُّل اتجاهاتِ رياحها الساخنة التي كادت أن تتحوّل «إعصارَ نارٍ» في الأحد المشهود، بعصْفِ الغارات الإسرائيلية «الاستباقية» وهدير صواريخ «حزب الله» ومسيّراته التي ردّت على اغتيال القيادي الكبير فيه فؤاد شكر في الضاحية الجنوبية لبيروت قبل شهر، فإن المغتربين المنتشرين في أصقاع الأرض يتعايشون مع ما يَجْري في وطنهم الأم وكأنّه يصيبهم حيث هم… فـ«الجَمرة التي لا تحرق إلا محلّها» صارت في كل مكانٍ، مع «ولاد البلد» الذين تَمَدّد معهم الوطنُ الصغير إلى المعمورة، يقيم في قلوبهم التي تعتصر قلقاً وألماً على الأهل والأقرباء ولسان حالهم كما فيروزتهم في «سألوني شو صاير ببلد العيد».
في فجر الغارات والصواريخ، قبل صياح الديك، وفيما كان المقيمون مازالوا في غفوتهم، بلغتْ طبولُ الحرب الواسعة اللبنانيينَ الساهرين في الأميركيتين وكندا ومَن كانوا يمضون فترة قبل الظهر في استراليا، الذين تلقّوا «الأخبار العاجلة» وتسمّروا لمتابعة ما يجري بذهول وذعر، فكانوا أقرب إلى الحدَث من لبنانيي الداخل البعيدين عن أرض الجنوب. وكان الكثير من هؤلاء بمثابة الـ wake up call، فأيقظوا باتصالاتٍ باكية الأهلَ من نومهم، وألحوّا عليهم المغادرة إلى أماكن آمنة، بعدما هالهم من بُعد ما سمعوه ورأوه على الشاشات، واعتقدوا أن الأسوأ صار وشيكاً خارج مسرح الاشتباك «المألوف».
لبنان في قلبهم
«نحن المهاجرون الجدد إلى أستراليا منذ عشر أو 15 عاماً لانزال على اتصال وثيق جداً بلبنان وأخباره»، تقول السيدة نادين قزيلي الناشطة المجتمعية في ملبورن «فأهلنا لايزالون هناك تحت الخطر ووسائل التواصل قرّبت المسافات بيننا وبين الوطن الجريح وحدّثتْ كل أخباره. محطات التلفزيون العربية والتطبيقات الإخبارية اللبنانية كلها موجودة على هواتفنا وفي بيوتنا، والإعلام الأسترالي ينقل بدوره أخبار الشرق الأوسط بشكل دائم». وتضيف: «لا نشعر بأننا غادرنا لبنان ولاتزال ردات فعلنا ذاتها كما لو كنا نعيش على أرض الوطن. نخاف على عائلاتنا الباقية هناك وينشغل بالنا على أحبائنا ونتابع لحظة بلحظة ما يجري، حتى أننا نعرف ببعض الأخبار قبلهم كما حدث يوم الضربة الإسرائيلية فجر 25 الجاري. أمي مثلاً تنام وتصحو أمام الشاشة لمتابعة الأخبار وتسمع جدار الصوت في ملبورن قبل أن يسمعوه في لبنان… لقد تردد دوي الغارات الإسرائلية على الجنوب في بيتنا قبل أن تدوي ربما على أرض الواقع».
المهاجرون القدامى الذين تَركوا لبنان قبل خمسين عاماً وأكثر وبنوا حياة لهم وعائلات في بلدان الاغتراب لا يزالون يغارون على لبنان ويتابعون أخباره عبر المحطات اللبنانية في بيوتهم. وقد نقلوا هذا الاهتمام الى أبنائهم حتى وإن كانوا لا يجيدون اللغة العربية، ولكنهم لا يشعرون بذاك القلق والخوف الذي ينتاب مَن لا تزال له عائلة وأهل وأقارب يخاف عليهم في لبنان.
ورغم ذلك، تقول قزيلي «يحاول هؤلاء جاهدين مساعدة بلدهم الأم بما يستطيعونه، وقد تجلى ذلك بوضوح بعد انفجار مرفأ بيروت وأزمة فقدان الأدوية، وكذلك بعد النزوح الذي عاشه أهل الجنوب إثر حرب المشاغلة. وكثيرون ممن ولدوا في الاغتراب يقومون بمبادرات للإعانة والمساعدة فيرسلون شحنات من الأدوية مثلاً إلى لبنان لأن حب الوطن يسري في دمهم».