هو صاحب الفكرة، حامل القلم، إبرة الميزان، والممسك بخيوط كثيرة. لا تخطئ بوصلة نبيه بري. السياسة عنده احتراف. أحد أبرز صنّاع الاستثناء في التاريخ اللبناني والشيعي خصوصاً، فتحوّل إلى مرجع لكلّ اللبنانيين وملاذ للشيعة بعدما نجح في تجاوز “الإقطاع التاريخي”. فهو عرّاب إدخال الشيعة إلى الدولة، وحالياً يضطلع بدور أساسي ومركزي في إعادة الشيعية السياسية إلى الدولة بالتكافل والتضامن مع المكوّنات السياسية الأخرى على قاعدة التوازن. يعرف نبيه بري جيّداً حدود “الألعاب اللبنانية”: متى يتاح لها الاتّساع، ومتى تتكسّر على صخور إقليمية ودولية كثيرة. لذا يجيد دوزنة المواقف التي تجلّت في محطّات كثيرة، ولا سيما بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري، وفي حرب تموز، وبعد اندلاع الثورة السورية، وصولاً إلى حرب 2024. وآخر مبادراته “طبخة” لوقف إطلاق النار في جنوب لبنان بدأ العمل عليها في الأروقة الدولية.
كلّ العمليات التي نفّذتها حركة أمل في فترة سابقة ضدّ العدوّ الإسرائيلي كانت تتوّج بياناتها بعبارات “الدفاع عن لبنان والجنوب”. بهذا المعنى يبقى نبيه برّي لبنانياً ميثاقياً كيانياً، بكلّ ما تعنيه الأصالة والعراقة، وعروبيّاً لا يتغيّر هواه، وأحد كبار الحالمين بالتقارب الإقليمي والإسلامي الإسلامي، والعربي الإيراني.
كان قد التقط لحظة اتفاق بكين قبل إعلانه، فمهّد له في خطابه الشهير خلال افتتاح السفارة الإيرانية الجديدة في بيروت في آذار 2023. اليوم يعود برّي إلى تجوهره. هو دوره ووقته، فالرجل لا يخطئ المواعيد.
كان برّي قد استبق كلّ السيناريوهات القائمة والمطروحة. منذ أشهر شدّد على تطبيق القرار 1701. عندما فاتحه الأميركيون وغيرهم بمسألة انسحاب الحزب من جنوب نهر الليطاني، أجاب: “من الأسهل نقل النهر جنوباً”. وعندما طرحت عليه فكرة تراجع الحزب لمسافة 10 كلم، طرح معادلته لتطبيق القرار 1701 كاملاً، أي ليس فقط على مسافة 10 كلم، بل على أكثر من ذلك لكن وفق القرار الدولي، الذي يضمن عدم وجود ظواهر مسلّحة في الجنوب، ويلتزم لبنان كما إسرائيل بتطبيق القرار مع ضمانات دولية بوقف الخروقات الإسرائيلية الجوّية وعدم استخدام الأجواء اللبنانية لاستهداف سوريا.
التّوقيت المناسب… وأفكار من خارج الصّندوق
الآن تتجمّع كلّ الأوراق والخيوط بين يديه. فهو الوحيد القادر على تحقيق خرق. لطالما كان يأتي برّي بأفكار من خارج الصندوق. ينظر إلى الأزمات بعين واسعة، ويعلم أنّه المدخل لأيّ حلّ. هو حاجة الحزب وملاذه داخلياً وفي المفاوضات الإقليمية والدولية. وهو حاجة للقوى الأخرى. بقي على موقفه وطروحاته، ولم يغيّرها فوق كلّ الضغط وتصعيد المواجهة. عندما أجريت في الأيام الماضية اتّصالات دولية معه لدفعه إلى حثّ الحزب على التراجع، طالب بالضغط على إسرائيل، وبعدم الرضوخ لابتزازها، واضعاً ما يجري في سياق الدفاع عن لبنان، ووضع لبنان في موقع الدفاع عن النفس والالتزام بالقرارات الدولية.
أمّا عندما طولب من جهات دولية وداخلية بضرورة المبادرة إلى التحرّك الدبلوماسي لنسج تسوية ومطالبة الحزب بالالتزام بها، اختار خطواته ومصطلحاته بعناية، فقال إنّ بنيامين نتنياهو يخوض حرباً لتغيير وجه المنطقة، وبالتالي الحرب تشمل لبنان ولا تنحصر في مسألة مساندة الحزب لغزّة. كما أنّه لا يمكن له أن يبادر أو يتحرّك ليظهر الحزب وكأنّه في موقع ضعيف أو يطلب التسوية. هو يعلم كيف يتحرّك ومتى. يعرف كيف يُقدم ومتى يُحجم، ويعلم أنّ ما لن يبادر إليه سيكون فيما بعد حاضراً لديه.
وقف الحرب… والرّئاسة
هو الذي يشكّل مظلّة واسعة يمكنها أن تتّسع للجميع. فرد قماشها بطروحاته السياسية: “لن نقع في الفخّ، ولن ننجرّ، وسنقاوم مخطّطات نتنياهو، ونتمسّك بقواعد الاشتباك ونطالب بتطبيق القرار 1701”. يعمل على ملفّين يسعى إلى معالجتهما: وقف الحرب في الجنوب، والمبادرة إلى إنجاز الانتخابات الرئاسية، على الرغم من فصله بين المسارين.
جنوباً يتلقّف كلّ الأفكار والعناوين، وهو صاحب التجربة التفاوضية مع الأميركيين في الحدود البحرية، وكان قد أعدّ عدّته مسبقاً للحدود البرّية على قاعدة تطبيق القرارات الدولية. فلا حلّ للبنان أنسب من تطبيق القرار 1701، والالتزام بالشرعية الدولية، وتثبيت هويّة لبنان وعروبته كمدخل لحلّ الكثير من الأزمات. أمّا في قوله إنّ لبنان لن ينجرّ فيعتبر أنّ الأسلوب الإسرائيلي هو الاستمرار بالتصعيد والانتقال في جولات متعدّدة. وبعد كلّ واحدة منها يتمّ إيصال رسائل تدعو الحزب إلى التنازل أو التراجع. وبحال لم يوافق فإنّ الجولات ستُستأنف. هنا يعتبر برّي أنّ “اللحم اللبناني مرّ” ولبنان “لا يحلو على الرصّ، فالتهجير بالتهجير، ولا سبيل إلا بالعودة إلى المفاوضات”.
أمّا رئاسياً فطرحه واضح يقوم على التوازن بين القوى والمكوّنات، ورفض استثناء أو استبعاد أيّ طرف داخلي، مع الحرص على التوازن الإقليمي والدولي. وهي تسوية بالنسبة إليه تحفظ توازن البلاد، وتشكّل مدخلاً جديّاً لمعالجة الأزمات.
قبل خمسة أشهر أطبق بري أعوامه الأربعين في مؤسسات الدولة اللبنانية. منذ أيار 1984، وزيراً فنائباً فرئيس مجلس، فعميد كل المجالس والمؤسسات.
اليوم يبدو النبيه الرئيس بري، كمن يُعدُّ لأقلّ من أربعين يوماً، لإنقاذ كل ما سبق.
وواجب كلّ اللبنانيين هو الوقوف معه. وإلا وجب عليهم أن يلتقوا في “الأربعين”. لا سمح الله. ولا سمح النبيه، الذي يعمل ليلاً ونهاراً من أجل وقف إطلاق النار في جنوب لبنان. خصوصاً بعد المبادرة التي بدأ العمل عليها أمس، والتي لا تلغي ضرورة الحوار بين اللبنانيين من أجل “اليوم التالي” بعد نهاية هذه الحرب.