يلفّ التطوّرات العسكرية، واستطراداً السياسية، “غموضٌ متفجّر” يصعب بفعله التكهّن بمآل الأمور التي سترسو عليها نهايات العدوان الإسرائيلي على لبنان. الوضع العسكري يزداد تعقيداً، خصوصاً أنّ مسار العمليات البرّيّة لم يَحسم مصيرها، وما إذا كانت مجرّد محاولات استطلاع بالنار ريثما يبدأ التوغّل الواسع المدمّر، أم قد تعيد التجارب الأولى النظر بسيناريو بلوغ الإسرائيليين نهر الليطاني. أمّا الوضع السياسي فيبدو أنّه يتّخذ منحى تصاعدياً في تشنّجه انطلاقاً من سعي القوى السياسية إلى الاستعداد لـ”اليوم التالي” والاستثمار فيه.
في الواقع، بعد حوالي ثلاثة أسابيع من حصول عمليات تفجير الـPagers ضدّ عناصر الحزب، صارت الولايات المتحدة الأميركية، على نحو واضح لا لبس فيه، شريكة علنية لإسرائيل في كلّ ما تقوم به من ضربات مؤلمة لـ”الحزب” ومن تهجير مُمنهج لبيئته ومن تدمير انتقاميّ للجنوب والبقاع والضاحية الجنوبية. ويبدو أنّها بدأت تعمل على توظيف نتائج الحرب في المعادلة الداخلية.
يلفّ التطوّرات العسكرية، واستطراداً السياسية، “غموضٌ متفجّر” يصعب بفعله التكهّن بمآل الأمور التي سترسو عليها نهايات العدوان الإسرائيلي على لبنان
هذا ما كشفته صحيفة “وول ستريت جورنال” مشيرة إلى أنّ إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن تدفع نحو استخدام هجوم إسرائيل على الحزب كفرصة لإنهاء “هيمنته”. وأبلغ المسؤول الكبير في البيت الأبيض آموس هوكستين مسؤولين عرباً أنّ إضعاف الحزب جرّاء الهجمات الإسرائيلية يجب أن يُنظر إليه على أنّه فرصة لكسر الجمود السياسي في لبنان، حسب ما أفادت الصحيفة.
ربّما هذا ما يفسّر الحراك الرئاسي المتسارع تحت عنوان اقتناص الفرصة لإنجاز الرئاسة وإعادة إنتاج السلطة التنفيذية لمخاطبة المجتمع الدولي وخطب ودّه. إذ تفيد المعلومات أنّ ثمّة قناعة غربية بضرورة إتمام الاستحقاق الرئاسيّ فوراً، لاعتبارات كثيرة منها مثلاً أنّ انتخاب رئيس مقبول من المجتمع الدولي هو بمنزلة بادرة حسن نيّة يمكن تقديمها كدليل حسّيّ على استعداد القوى السياسية لمواكبة الأجندة الدولية بقراراتها الأممية ومطالبها الإصلاحية، وبالتالي لا ضرورة لانتظار وقف إطلاق النار الذي سيكون بطبيعة الحال محصّناً بتسوية دولية قد تأتي في حينه برئيس مكبّل اليدين.
تمايز فرنسيّ – أميركيّ في الرّئاسة
هنا، لا بدّ من الإشارة إلى التمايز بين المقاربتين الأميركية والفرنسية، وفق مصادر دبلوماسية، حيث تتّسم الأولى بالكثير من الحدّة، وهي أقرب إلى الفرض، فيما تسلك الثانية المنحى الاستيعابي القائم على فكرة انتخاب رئيس توافقي.
يقول بعض المواكبين إنّ خشية الحزب من فرض تسوية رئاسية لا ترضيه، دفعته إلى المسارعة إلى إقفال الباب سريعاً تحت عنوان ترحيل كلّ التفاصيل
بناء عليه، يقول بعض المواكبين إنّ خشية الحزب من فرض تسوية رئاسية لا ترضيه، دفعته إلى المسارعة إلى إقفال الباب سريعاً تحت عنوان ترحيل كلّ التفاصيل لأنّ الأولوية هي لوقف إطلاق النار، الذي يبدو أنّ المجتمع الدولي يتعامل مع دعوة نائب الأمين العام الشيخ نعيم قاسم إليه على أنّها تكريس لفصل المسار مع غزة. وهذا ما عاد وأكّد عليه وزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي في كلامه إلى قناة الجزيرة حين قال: “يجب وقف إطلاق النار في غزة ولبنان. لكنّ الطرح بأنّ وقفه بلبنان ضرورة وأولوية أيضاً صحيح”.
هكذا عادت الطابة إلى ملعب رئيس مجلس النواب نبيه بري الذي يقود مركب المفاوضات الدبلوماسية، وعنوانها الـ1701 والعمل على وقف إطلاق النار، وتقول مصادر دبلوماسية إنّ المشاورات التي يجريها بري مع الدبلوماسيين الغربيين في بيروت حسمت الغموض الذي كان سائداً لجهة المطالبة بوقف فوري لإطلاق النار يستمرّ لـ21 يوماً ليُترك للعمل الدبلوماسي أن يأخذ مداه، من دون أيّ ربط، ولو غير مباشر مع غزة. إلّا أنّ اللافت وفق المصادر الدبلوماسية أنّ بري أهمل خلال الساعات الأخيرة كلّ النقاش حيال الاستحقاق الرئاسي.
تستعدّ المعارضة، بقيادة معراب، للجلوس رسمياً إلى الطاولة، من خلال المؤتمر الذي تعدّ له تحت عنوان “دفاعاً عن لبنان”
محور المعارضة… إلى التّشدّد
في المقابل تستعدّ المعارضة، بإدارة معراب، للجلوس رسمياً إلى الطاولة، من خلال المؤتمر الذي تعدّ له تحت عنوان “دفاعاً عن لبنان”. وهو يهدف بشكل خاصّ للردّ على الصورة الثلاثية التي جمعت كلّاً من الرئيس نبيه بري، ورئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي والرئيس السابق للحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط، من خلال وضع خارطة طريق لما بعد الحرب، وتأكيد شراكة قوى المعارضة في صناعة اليوم التالي الذي سيرتكز، وفق منطق المعارضة، على القرارات الدولية والنتائج العملية للحرب في تغيير موازين القوى. وهذا ما يدفعها إلى رفع سقف طموحاتها في الملفّ الرئاسي، إذ تقول شخصيات معارضة إنّ الأمور لم تعد تحتمل انتخاب “حيالا” رئيس، وبالتالي لا بدّ من شخصية مناسبة للمرحلة، من دون أن يعني أنّها بصدد ترشيح شخصية معارضة في تكوينها وفي هويّتها، لكنّ الأمور تجاوزت ما كان مقبولاً في المرحلة الماضية.
في هذه الأثناء، استعادت الاتصالات الدولية شيئاً من عافيتها بعدما دخلت خلال الأيام الماضية في موت سريري، وكشف رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي أنّ “الاتصالات الدّبلوماسيّة تكثّفت في السّاعات الماضية، قبيل انعقاد جلسة مجلس الأمن الدولي، بهدف السّعي مجدّداً إلى وقف إطلاق النّار، وبالتّالي القيام بمزيد من الضّغط لوقف العدوان الإسرائيلي على لبنان”. إذ تقول المعلومات إنّ بعض الدول المعنية، ومنها باريس، تعمل على صياغة مشروع قرار لوقف إطلاق النار، لا يزال موضع اعتراض، مع العلم أنّ سفراء مجموعة الخماسية على تواصل دائم فيما بينهم، وقد عقدوا خلال الأسبوع الماضي اجتماعاً بقي بعيداً عن الأضواء في دليل على عدم نضوج أيّ حراك دولي.
تفيد المعلومات أنّ الاتصالات بين الدول المعنية لم تتوقّف أبداً. باريس ومصر وقطر على خطّ العمل للتهدئة، لكن لا نتائج مرضية إلى الآن
ختاماً تفيد المعلومات أنّ الاتصالات بين الدول المعنية لم تتوقّف أبداً. باريس ومصر وقطر على خطّ العمل للتهدئة، لكن لا نتائج مرضية إلى الآن. ويرى المتابعون أنّ المؤشّرات الدبلوماسية تفيد بأنّ إسرائيل المصرّة على المضيّ قدماً في عملياتها العسكرية المرشّحة للتوسّع، قد تكون تجاوزت القرار 1701 بكلّ مندرجاته، لأنّ تطبيقه موضع التباس منذ لحظة صدوره في آب 2006.
لهذا يرى المعنيون أنّ الدوائر الدبلوماسية قد تعمل على إيجاد صيغة وسطية بين القرارين 1701 و1559 الذي صدر بظروف سياسية مختلفة في أيلول 2004 (يطالب جميع القوات الأجنبية الباقية بالانسحاب من لبنان، ويدعو إلى حلّ جميع الميليشيات اللبنانية ونزع سلاحها).