تَوَغَّلَ لبنان والمنطقةُ في أخطرِ منعطفاتِ حرب غزة وأخواتها التي صار منذ نحو 3 أسابيع جبهتَها الرئيسية قبل أن يلتفّ «حبلُ النارِ» حول عنق طهران لتجد نفسها في قلْب الإعصار الذي يدمي «بلاد الأرز» والقطاع ويُنْذِر بتشظياتٍ قد لا تفلت منها إيران التي «تَسَرَّب» إليها «طوفان الأقصى» على امتداد عامٍ بدا أنه أرسى مقدّمات لمعاودة تشكيل الشرق الأوسط وترسيم النفوذ فيه.
فغداة العملية النوعية المركّبة والمعقّدة والأكثر إيلاماً للجيش الإسرائيلي التي نفّذها «حزب الله» الذي كان «بالمرصاد 1» لقاعدة عسكرية في بنيامينا جنوب حيفا، حيث قُتل ما لا يقلّ عن 4 جنود من لواء غولاني وجُرح 67 آخَرين، رُبطتْ الأحزمةُ في لبنان وسط إشاراتٍ إلى أن ما بعد هذه الضربة الأقسى التي تعرّضت لها تل أبيب من الحزب – الذي يتلقى الضربات بلا هوادة وسبق أن توعّدت إسرائيل بألّا تترك له مجالاً لالتقاط الأنفاس – لن يكون كما قَبْله، وأن «البناء الدبلوماسي» الذي كان يُهندس لتوفير مَخرج طوارئ للحرب ومنْع الانفجار الشامل في المنطقة انهارَ أقله لفترة لن يعلو خلالها صوت فوق صوت آلة الدمار والقتل التي بكّرت في «الجرائم السباقة» التي ضربت أمس منطقة أيطو (قضاء زغرتا الذي استُهدف للمرة الأولى) حيث قضى 22 شخصاً، بينهم أطفال ونساء في غارةٍ مروعة.
ورغم أنّ استهدافَ «حزب الله» قاعدة بنيامينا ثم مضيّه أمس، بضرباتِ في شمال إسرائيل، ليس أقلها استهداف قاعدة ستيلا ماريس البحرية شمال غربي حيفا ثم تل أبيب ووسط إسرائيل (حيث تم تفعيلُ صفارات الإنذار في 182 بلدة ومستوطنة فيه، وأقفل مطار بن غوريون لفترة)، عَكَسَ أن الاجتياحَ الجوي المتمادي والتوغل البري البطيء والاغتيالات المتسلسلة لمنظومة القيادة والسيطرة في الحزب لم تمنعه من التعافي السريع نسبياً ولا شلّت قدرته على «صعق» إسرائيل وإطلاق معركة استنزاف لجيشها، إلا أنّ هذه الخلاصات لم تَبْدُ كافية لدفع بنيامين نتنياهو نحو مراجعة مسار «حرب لبنان الثالثة» ولا بالتأكيد التراجع عن أهدافه المعلنة والمضمرة بل أعطى إشاراتٍ إلى أنه سيستمرّ في «الدوس على البنزين» بل حتى زيادة منسوب التصعيد، قائلاً «أريد أن أكون واضحاً: سنستمر بضرب حزب الله بلا رحمة في كل أنحاء لبنان بما يشمل بيروت».
وفي وقت كانت الغاراتُ تدكّ مناطقَ واسعة في البقاع والجنوب الذي شهد مواجهاتٍ طاحنة على الحافة الأمامية وفي عمق مئات الأمتار داخل الأراضي اللبنانية في بعض النقاط، مع «رسائل بالنار» لقوافل المساعدات كما حصل في بلدة العين (البقاعية)، تزاحمت مؤشرات دخول الحرب مرحلة الأسابيع الثلاثة الأكثر حراجة وسواداً في الطريق إلى انكشاف مَن سيدخل البيت الأبيض، وأبرزها:
– تَلميحٌ في تل أبيب إلى استعدادٍ «للتصرّف» الوشيك تجاه «حزب الله» رداً على هجوم بنيامينا وإيران في سياق «الوعد» بالردّ على ضربتها الصاروخية، وفق ما عبّر عنه الإعلان عن مشاوراتٍ دعا إليها نتنياهو في «حفرة يوم القيامة» مع الوزراء وكبار المسؤولين في المؤسسة الأمنية «حول موضوع إيران ولبنان»، وهو ما ربطه الإعلام العبري «باحتمال التصعيد على الجبهة اللبنانية».
– إبلاغ إسرائيل، على وقع عودة الحركة التي لا تستكين للمسيّرات في سماء العاصمة اللبنانية وضاحيتها الجنوبية، إلى واشنطن أنها ستنفذ «رداً قوياً» على استهداف القاعدة العسكرية، بعدما كانت تقارير تحدثت عن تعهد من تل أبيب لإدارة الرئيس جو بايدن بوقف الاستهدافات لبيروت (والضاحية الجنوبية) والتي كان آخرها يوم الخميس حين نُفذت الغارة في منطقة البسطة (قلب العاصمة اللبنانية) لاغتيال مسؤول الارتباط والتنسيق في «حزب الله» وفيق صفا.
– التعاطي مع «السماح» بنشر فيديوهات لقاعدة بنيامينا وآثار الدماء على أنه في سياق «بناء إعلامي» لاستدراج «مشروعية» التصعيد ضد «حزب الله» وكذلك إيران التي بدا أيضاً تسريبُ معلومات عن معرفتها المسبقة بـ«طوفان الأقصى» ودعمها «حماس» ثم الإعلان في تل أبيب عن «اعتقال مواطنيْن جندتهما الاستخبارات الإيرانية لاغتيال شخصية إسرائيلية» على أنه في إطارٍ تمهيدي لرفْع مستوى «الضربة الردّ» عليها وربما توسيع الأهداف.
– مقاربة هجوم «حزب الله» النوعي والذي انتقل فيه إلى مرحلة جديدة في استخدام إمكاناته وتفعيلها على وقع نشر الإعلام الحربي فيه مقطع فيديو تحت عنوان «قدراتنا بألف خير» ويُظهر «قوته الجوية» بالمسيّرات وترسانته الصاروخية، على أنه في سياقِ «رسالةٍ إيرانية» إلى كل من إسرائيل، التي كانت تستعدّ لتوجيه ضربتها، ولواشنطن التي بإرسالها منظومة الدفاع الأقوى «ثاد» مع مئة جندي لتشغيلها إلى تل أبيب، وجّهت إشارةً مباشرة إلى أنها «باتت على الأرض» في المعركة ضدّها.
وثمة مَن تعاطى مع اندفاعة الحزب النوعية مساء الأحد، وتعميق استهدافاته وعلى مدار الساعة أمس، وصولاً لاستدراجه مع إطلاق صواريخ بالستية، ومن شمال لبنان، نحو تل أبيب تفعيل صفارات الإنذار في أكثر من 182 بلدة ومستوطنة خصوصاً في وسط إسرائيل ما استدعى أن يهرع الملايين إلى الملاجئ وإغلاق مطار بن غوريون، على أنها في جانب منها مدجّجة بـ «تحذير» من طهران لإسرائيل والولايات المتحدة من أي ضربةٍ لها «خارج الحدود» أو حتى من توجيه الضربة.
وفي «مضمون» الرسالة التي بدت أقرب إلى «ضربة استباقية»، أن ما ينتظر تل أبيب لا يُقاس بما جرى في «الأحد الأسود»، ولا سيما أن الصواريخ الدقيقة التي يملكها الحزب والتي لم تدخل بعد المعركة هي على بُعد «كبسة زرّ» تتحكّم به إيران التي لم يكن عابراً أن تعلن خارجيتها توقف المباحثات غير المباشرة مع واشنطن لغياب الأرضية في ظل التوتر الإقليمي، بالتوازي مع فرض الاتحاد الأوروبي عقوبات على أفراد وكيانات على صلة بنقل صواريخ بالستية إيرانية إلى روسيا وبينهم نائب وزير الدفاع.
– ما أوردته قناة «الجزيرة» عن مصادر من أن دبابتين إسرائيليتين اجتازتا الخط الفاصل مع سورية وتمركزتا قرب قرية كودنة في ريف القنيطرة، وذلك بعد إعلان الجيش الإسرائيلي اعتراض طائرتين مسيّرتين انطلقتا ظهر أمس، من سورية، وإسقاطهما قبل وصولهما إلى هدفهما.
ولم تقلّ دلالةً على خطورة اللحظة دعوةُ السفارة الأميركية في بيروت لمَن بقي من رعاياها في لبنان للمغادرة فوراً مع تأكيد أن الرحلات الإضافية عبر مطار رفيق الحريري الدولي «لن تستمر طويلاً»، والاتصالاتُ التي تَسارعت في اتجاه بيروت، وأبرزها تلقي رئيس مجلس النواب نبيه بري، المفوّض من «حزب الله» إدارة مفاوضات وقف النار، اتصالاً من رئيس مجلس الوزراء وزير الخارجية القطري الشيخ محمد بن عبدالرحمن بن جاسم آل ثاني، في وقت كان رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي يلتقي نظيره الأردني جعفر حسَّان في عمان.
وكان ميقاتي تلقى اتصالاً من الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الذي أكمل «دورة اتصالاته» لتشمل الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان الذي «طلب العمل مع دول أوروبية أخرى لإرغام النظام الصهيوني على وضع حد للإبادة الجماعية والجرائم المرتكبة في غزة ولبنان».
وفي موازاة المسارِ الدبلوماسي التهب الميدانُ على الحافة الحدودية وصولاً إلى عمق الجنوب والبقاع والشمال الذي تعرض لثاني استهداف في ثلاثة أيام.
فبعد الغارة على منطقة ديربلا (قضاء البترون)، استهدفَ الطيرانُ الحربي مبنى في منطقة أيطو (قضاء زغرتا) كان يقطنه 25 شخصاً، قضى 22 منهم، وسط تقارير أشارت إلى أن المستهدف كان المسؤول العسكري في منظومة الصواريخ في «حزب الله» أحمد فقيه.
وفي موازاة ذلك، رَفَعَ الحزب وتيرةَ عملياته في العمق الإسرائيلي كما على الحدود حيث تصدّى لمحاولاتِ توغل في مختلف القطاعات، الشرقي والغربي والأوسط، كما أعلن أنه «استهدف جنوداً داخل بلدة مارون الراس الحدودية»، في حين أعلن الجيش الإسرائيلي أنه اكتشف نفقاً بطول 800 متر تابعاً لـ «قوة الرضوان» جنوب لبنان، وانتشر على مواقع التواصل الاجتماعي فيديو زعم أن هذا الجيش قام برفع العلم الإسرائيلي في الجنوب قرب نصب تذكاري يخلد سيطرة الجيش اللبناني على المنطقة بعد حرب يوليو 2006.