كثيرٌ من الضبابية يحيط بمصير المفاوضات التي قادها آموس هوكستين بين لبنان وإسرائيل، أو بالأحرى بين “الحزب” وإسرئيل، عبر رئيس مجلس النواب نبيه برّي. التفاؤل حاضر بقوّة في استنتاجات المعنيّين وخلاصاتهم لساعات التفاوض الطويلة، خصوصاً أنّ الموفد الأميركي مقتنع بأنّ رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو جادٌّ في سعيه في هذه الجولة إلى تحقيق وقف إطلاق النار، على ما نقله إلى المسؤولين اللبنانيين. ولكن ماذا عن التفاصيل العالقة؟
بداية، لا بدّ من الإشارة إلى نقطة محورية من شأنها أن تعطي مهمّة هوكستين بعداً قويّاً، حيث قال الرجل بصريح العبارة أمام من التقاهم في بيروت إنّ الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترامب هو من طلب إليه استكمال وساطته بين بيروت وتل أبيب، وطبعاً بدعم من رئيسه جو بايدن. وهو ما يزوّد مهمّته بدفعيْن متوازيَين، الأوّل من الإدارة الحالية والثاني من الإدارة الجديدة.
لهذا اكتسبت زيارته أهمّية استثنائية في لحظات مفصلية بين إدارة تستعدّ للرحيل وأخرى تتجهّز لدخول البيت الأبيض. ويعتقد كثيرون أنّ هذه المحطّة الانتقالية هي الوصفة المثالية لتبريد النزاع الحدودي وإطفائه لعقود من الزمن لتكون انطلاقة عهد ترامب “خالية” من ألغام العدوان الذي تشنّه إسرائيل، والسير في مشاريع “السلام” التي روّج لها خلال حملته الانتخابية.
كثيرٌ من الضبابية يحيط بمصير المفاوضات التي قادها آموس هوكستين بين لبنان وإسرائيل، عبر رئيس مجلس النواب نبيه برّي
مهلة 60 يوماً تجريبيّة
بناء عليه، ذهب المنحى الإيجابي في تلقّف مساعي هوكستين، إلى حدّ الجزم أنّ الكلام عن 60 يوماً “تجريبيّاً” للاتفاق في حال رؤيته النور، هو بمنزلة الحدّ الفاصل بين خروج بايدن ودخول ترامب البيت الأبيض بعد إقفال الملفّ اللبناني. بهذا المعنى، بات الكلام عن ولادة الاتفاق خلال الأيام أو الأسابيع المقبلة، أكثر من جدّيّ.
لكن، بعد آخذ وردّ، تبيّن أنّ مسألتين بالغتَيْ الدقّة جعلتا المفاوضات العابرة للحدود الجنوبية معلّقة إلى أجل غير مسمّى، وهما:
– الطبيعة القانونية للحدود التي سينسحب إليها العدوّ الإسرائيلي بعد وقف إطلاق النار.
– منح إسرائيل حقّ التدخّل عسكرياً في لبنان حين ترتئي ذلك بحجّة خرق لبنان للاتّفاق أو تقصير الجيش في تنفيذه.
هذا علاوة على تكوين لجنة الإشراف الدولية التي ستتولّى الرصد والمتابعة، إذ اعترض الجانب اللبناني على مشاركة البريطانيين والألمان، مقترحاً مشاركة الأردنيين كطرف عربي محايد، فيما برز اعتراض إسرائيلي على مشاركة الفرنسيين. ومع ذلك، ترى مصادر رسمية متابعة أنّ مسألة تركيبة اللجنة قابلة للمعالجة، ولن تكون عثرة أمام الاتفاق إذا ما تمّت صياغة حلول توافقية لمسألتَي الانسحاب والتدخّل الإسرائيلي.
تفيد المعطيات أنّ لبنان اعترض على المقترح الإسرائيلي القاضي بالانسحاب حتى الخطّ الأزرق، وتثبيته على أنّه خطّ حدودي
بين الخطّ الحدوديّ وخطّ الانسحاب
بالتفصيل، تفيد المعطيات أنّ لبنان اعترض على المقترح الإسرائيلي القاضي بالانسحاب حتى الخطّ الأزرق، وتثبيته على أنّه خطّ حدودي، وهو ما يعني فرض أمر واقع جديد يرفضه لبنان المتحفّظ على 13 نقطة حدودية كانت لا تزال موضع تفاوض مع الجانب الإسرائيلي الذي كان يحتلّها قبل 7 أكتوبر (تشرين الأوّل 2023)، إضافة إلى تلال كفرشوبا ومزارع شبعا والشطر الشرقيّ للغجر.
هنا، لا بدّ من الإشارة إلى أنّه حصل قبل مدّة تفاهم مبدئي على تسوية 7 نقاط من أصل النقاط الـ13 التي يتمحور الخلاف الحدودي حولها، ولا تزال هناك 6 نقاط عالقة، من بينها نقطة الـB1.
أمّا “الخطّ الأزرق” فموجود على الحدود، لكنّه ليس خطّاً حدودياً، بل خطّ انسحاب القوات الإسرائيلية من لبنان في عام 2006. وتالياً لا يتطابق “الخطّ الأزرق” بشكل كامل مع الحدود اللبنانية، وذلك في النقاط الـ13 التي يطالب لبنان باستعادتها لكي تصبح داخل الأراضي اللبنانية. إذ إنّ “الخطّ الأزرق” في أماكن ما هو داخل الحدود اللبنانية. وبالتالي، تُعتبر النقاط الـ13 في إطار المناطق المتنازع عليها، وهي مناطق محتلّة مثلها مثل شمال الغجر، وتلال كفرشوبا، ومزارع شبعا. مع الإشارة إلى أنّ مزارع شبعا “مثلّثة الأضلع”، ولذا المطلوب من سوريا إبلاغ الأمم المتحدة بلبنانيّة هذه المنطقة أيضاً بالتوازي مع موقف لبنان المتمسّك بها.
تشير المعطيات إلى أنّ الجانب الإسرائيلي يغتنم فرصة العدوان لكي يكرّس واقعاً حدودياً جديداً بأن يكتفي بالانسحاب إلى الخطّ الأزرق، أي حيث كان قبل 7 أكتوبر 2023، ليفرضه خطاًّ حدودياً. فيما لبنان يطالب بإبقائه خطّ انسحاب أو العمل على تثبيت الحدود بعد استرجاع النقاط المتنازع عليها، والمشار إليها سابقاً.
الحزب لم ينهَر كما يسود الاعتقاد في بعض الأوساط، حتى لو تراجعت ترسانته العسكرية وضعفت
مناخ إيجابيّ ولكن
أمّا بالنسبة لمنح إسرائيل حقّ التدخّل عسكرياً، فتفيد المعطيات أنّ حكومة العدوّ لطّفت العبارة من خلال استبدال عبارة “منح الجهتين حقّ الدفاع عن النفس” بها، لكنّ هذا البند لا يزال خلافيّاً، لا سيما أنّ لبنان يرفض التسليم بهذا المنطق، خصوصاً أنّ الضبابيّة تحيط بالآليّة التنفيذية المرافقة له.
بالنتيجة، ثمّة مناخ إيجابيّ مستجدّ يمكن الاستنتاج منه أنّ الإطار العامّ لاتّفاق وقف إطلاق النار صار واضحاً حتى لو تأخّرت ولادته. يقول المتابعون إنّ هوكستين أنجز ما يمكن له إنجازه كعمل دبلوماسي. الآن عادت الكرة إلى واشنطن، إلى ملعبَي بايدن وترامب لرصد ما يمكن للأخير أن يقوم به من ضغوط، وبالتحديد على نتنياهو، للسير بالاتفاق، على اعتبار أنّ بايدن أدّى قسطه في هذا المجال.
بالانتظار، الرهان على الميدان من كلا الجانبين لتحسين شروط الاتفاق أو للتخفيف من أثقاله. وهذا ما يفسّر التصعيد العسكري. والأكيد أيضاً أنّ الاتفاق العتيد لا يزال ضمن إطار الصياغات الموضعيّة، الأقرب إلى “الترقيعية”، للمرحلة المقبلة لأنّه لا يتضمّن معادلات جذريّة قد تغيّر الواقع بعمق:
الحزب لم ينهَر كما يسود الاعتقاد في بعض الأوساط، حتى لو تراجعت ترسانته العسكرية وضعفت فضلاً عن تركيبته السياسية. فيما الحدود البرّيّة مع سوريا قد تعود مشرّعة في ضوء ما يقال عن عدم انخراط روسيّ في أيّ اتّفاق لإحكام القبضة على الحدود اللبنانية – السورية ومنع إعادة تسليح الحزب في المرحلة المقبلة، أقلّه إلى الآن.