لم يعد مضمون اتفاق وقف إطلاق النار ببنوده الـ13 و”ألغامه” مُهمّاً بقدر الحاضنة الميدانية – السياسية التي ستواكب تنفيذه منذ دخوله حيّز التطبيق فجر الأربعاء، خصوصاً أنّ ثمّة تقاطعاً خفيّاً بين إسرائيل و”الحزب”، بحكم التجربة، يرسم معادلة: النصّ شيء والأرض شيء آخر.
بالمحصّلة عنوانان أساسيّان واكبا دخول لبنان مدار الهدنة: الالتباسات المرافِقة للمراحل الأولى لتطبيق الاتفاق، لا سيّما أنّ عودة النازحين التلقائية إلى قراهم في الجنوب زاحمت تعليمات الجيش وتحذيرات العدوّ الإسرائيلي وتهديداته بحرّيّة التحرّك، والوهج الرئاسي الذي أطلّ برأسه من النافذة الفرنسية بالتزامن مع الإعلان الأميركي – الفرنسي عن اتفاق وقف إطلاق النار.
أتت جلسة السراي أمس “متمّمة” لأجندة الترتيبات اللبنانية التي واكبت ولادة اتفاق وقف إطلاق النار. وهي بالتأكيد محطّة رمزية لجهة إعلان التزام الحكومة تنفيذ قرار 1701 و”الترتيبات” المرفقة به، أمام ما سينتظر الميدان بنسخة ما بعد الحرب، وتحديداً لجهة آلية الانسحاب المتزامن من جانب الجيش الإسرائيلي وعناصر “الحزب”، والدور الفعليّ المطلوب من الجيش والمدى الرقابي الأمنيّ للأميركيين والفرنسيين على مراحل الاتفاق.
خرج وزير الدفاع موريس سليم عن قرار “التيار الوطني الحر” مقاطعة جلسة مجلس الوزراء فرفع النصاب إلى 17 وزيراً، وهو ما أتاح حضور قائد الجيش العماد جوزف عون الجلسة وعرضه لخطّة الانتشار في الجنوب. كما تسلّم الوزراء نسخة عن الاتفاق باللغة الإنكليزية في بداية الجلسة، وقد خلا من أيّ إشارة إلى الأسرى وكرّس حقّ الدفاع عن النفس لدى الطرفين.
في اليوم الأوّل لوقف إطلاق النار والعودة إلى القرى بدا واضحاً تداخل التحذيرات الإسرائيلية وتهديدات العدوّ التي وصلت إلى حدّ التلويح بإجراء مسح للداخلين إلى القرى بهدف منع عناصر “الحزب” من “التسلّل”، مع تعليمات الجيش اللبناني بالتريّث بالعودة إلى البلدات الأمامية التي توغّلت فيها قوات العدوّ بانتظار انسحابها، لكن سبق الجنوبيون الجيش إلى الخيام وكفركلا وديرميماس…
بدت رئاسة الجمهورية بنداً ملحقاً غير معلن باتفاق وقف إطلاق النار مهّد له الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في كلمته المقتضبة مساء الثلاثاء
لكنّ الضمانات الأميركية الممنوحة للإسرائيليين خيّمت على فحوى الاتفاق نفسه. وقد أقرّ “الحزب” بوجودها فعلاً ضمن سياق الإغراءات التي مُنحت للعدوّ للسير بالاتفاق مع وضع معادلة مضادّة بوجهها: “يتحرّك (الجانب الإسرائيلي) نتحرّك”.
وقف إطلاق النار
هذا ما يطرح علامات استفهام كبيرة حول مدى مناعة اتفاق وقف إطلاق النار خلال الـ60 يوماً، في ظلّ معطيات تؤكّد منح واشنطن إسرائيل حرّية التحرّك برّاً وبحراً وجوّاً في حال لم يتمكّن الجيش بعد إبلاغه من جانب ضبّاط لجنة المراقبة من صدّ خروقات “الحزب”. تبدو كلمة خروقات مطّاطة جدّاً، وقد يحمّلها العدوّ أكثر ممّا تحتمل، كرفض مثلاً أيّ تحرّك لعناصر حزبية أو قادة حزبيين جنوب الليطاني لم تستطع إسرائيل النيل منهم واعتبارهم “أهدافاً مشبوهة”. وبالفعل في اليوم الأول من دخول قرار وقف إطلاق النار حيّز التنفيذ أعلن الجانب الإسرائيلي مساء أمس قتل 6 من عناصر الحزب، كما قالت القناة 14 الإسرائيلية، اقتربوا من مناطق تمركز العدو على الحدود!
إلى الرّئاسة دُرْ
على خطّ موازٍ، بدت رئاسة الجمهورية بنداً ملحقاً غير معلن باتفاق وقف إطلاق النار مهّد له الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في كلمته المقتضبة مساء الثلاثاء بالدعوة إلى انتخاب رئيس “من دون تأخير”، ثمّ إعلان قصر الإليزيه وصول الممثّل الخاصّ للرئيس الفرنسي جان-إيف لودريان إلى بيروت أمس “في إطار مساعٍ مستمرّة لحلّ الأزمة السياسية”، ثمّ حضور الملفّ الرئاسي في خطابَيْ الرئيسين نبيه بري ونجيب ميقاتي، مع تشديد رئيس مجلس النواب على أن “لا يُشكّل الرئيس المقبل تحدّياً لأحد، ويجمع ولا يفرّق”، وهي المواصفات نفسها التي كان يكرّرها بري في معرض إعلان دعمه لترشيح النائب السابق سليمان فرنجية.
عمليّاً، سيستكمل لودريان مساراً متقطّعاً من الزيارات السابقة، آخِرتها زيارته السادسة لبيروت التي غادرها في 25 أيلول الماضي، بعد أيام من بدء العدوان الجوّي الإسرائيلي وقبل يومين من اغتيال الأمين العام لـ”الحزب” السيّد حسن نصرالله. يومها لم يوسّع مروحة اتّصالاته السياسية بعدما ضاعت الرئاسة بين جولات الغارات الإسرائيلية. بعدها حطّ وزير الخارجية الفرنسي جان نويل بارو في سياق مهمّة مستحيلة للجم التصعيد، إضافة إلى تقديم مساعدات.
أتت جلسة السراي أمس “متمّمة” لأجندة الترتيبات اللبنانية التي واكبت ولادة اتفاق وقف إطلاق النار
مع وصول لودريان مساء أمس إلى بيروت يفترض أن يباشر اليوم جولته على القوى السياسية، فيما تؤكّد معطيات “أساس” أنّ الوسيط الفرنسي سيحثّ مفاتيح الانتخاب في لبنان على التقدّم خطوة باتّجاه التداول المسؤول في الأسماء الجدّية المطروحة لرئاسة الجمهورية من دون تدخّل فرنسي في ترجيح كفّة مرشّح على آخر.
في هذا الوقت، نُقل عن سفير في اللجنة الخماسية المعنيّة بحلّ الأزمة الرئاسية قوله إنّ على اللبنانيين أن لا ينسوا على الرغم من حجم الزلزال الذي ضرب الداخل بفعل الحرب الإسرائيلية على لبنان ثمّ تفعيل القرار 1701 ببنود ملزمة للطرفين، أنّ أزمة لبنان أيضاً اقتصادية ومالية وتتطلّب رؤية وخطّة مستقبلية واضحة لمواجهتها، وأنّه ليس المعطى الأمني والعسكري وحده يتحكّم بمفاصل الأزمة. وبهذه الخلفيّة عليهم أن يختاروا الرئيس المقبل بروح التوافق والتعاون.