إسرائيل تلعب في الصحن الدرزي في سوريا ولبنان!

قبل نحو 60 عاماً، دغدغ الإسرائيليّين حلمُ دعم انفصال الدّروز عن الدّولة السوريّة، وعملوا بجهد على إعادة إحياء دولة جبل العرب (التي كانت تضم منطقة جبل العرب والقرى المحيطة بها وأجزاء من إمارة شرق الأردن)، كأوّل دولة درزيّة أقيمت عام 1921 ولم تصمد أكثر من 15 عاماً. وبعد حرب 1967، بذل الصهاينة قصارى جهودهم لدفع الدّروز إلى التمرّد على الدولة السورية، لأنّ «تمرداً كهذا سيُشكّل طعنة في ظهر الوحدة العربية التي تحاربنا بسكين سام»، على حد تعبير وزير العمل الإسرائيلي في حينه يغال ألون في رسالةٍ رسميّة كشف عنها أخيراً إلى رئيس الوزراء آنذاك ليفي إشكول.
ad

«الحلم الإسرائيلي» لم يستكن يوماً، بل ظلّ على جدول الأعمال الدولة الصهيونيّة التي استثمرت في دروز فلسطين، وتمكّنت من جعل الشيخ موفّق طريف، أحد رجالاتها المخلصين، رقماً درزياً صعباً. وقد تبيّن مع الوقت، أن الرجل لا يعمل بمفرده، بل لديه فريق عمل كبير، بعضه يعمل داخل مؤسسات جيش الاحتلال والإدارة المدنية أيضاً. ومع الوقت، تحوّل طريف إلى «أخطبوط سياسي» تمكّن من نسج علاقات عربيّة ودوليّة صار منفّذاً أساسياً للأجندة الإسرائيليّة، قبل أن يمدّ أذرعه إلى الداخل السوري، مستثمراً بالأموال الإسرائيليّة لخلق «بيئة غير معادية» في أكثر من منطقة تسكنها غالبية درزية.

حصل ذلك في السويداء، المعقل الدّرزي الأساسي، وتمدّد صوب لبنان. وسبق للقوى الأمنية اللبنانية أن أوقفت أحد المطارنة الموارنة وهو ينقل أموالاً من كيان الاحتلال إلى لبنان. وقال المطران يومها إن الأموال التي وُجدت في حوزته يعود قسم منها إلى عائلات لبنانية يوجد أفراد منها داخل كيان الاحتلال، لكنه أقرّ بأنه ينقل مبالغ أخرى من طريف إلى رجال دين دروز في لبنان. وتبيّن للأجهزة الأمنية حينها أن هذه الأموال تأخذ طريقها بعيداً عن القنوات التقليدية للمرجعيتين الدرزيتين، أي المختارة وخلدة.

وشكّلت الفوضى الكبيرة في سوريا بعد اندلاع الحراك المناهض للرئيس بشّار الأسد، قبل نحو 14 عاماً، فرصة لتتمدد أذرع طريف ورجاله في السويداء. ومع سقوط نظام الأسد، تصرّف الرجل ومن خلفه إسرائيل، بأنه حان موسم القطاف، وتحويل الدروز إلى سلاح في معارك النفوذ الجارية بين إسرائيل من جهة وتركيا من جهة أخرى، علماً أن العدو الذي توغّلت قواته داخل الأراضي السورية بعد وصول الحكم الجديد إلى سوريا، باشر فوراً في «مشروع العلاقات الاجتماعية» مع عدد من عائلات الجنوب السوري، لكنّ تركيزه كان على الوسط الدرزي في قرى القنيطرة إلى جانب السويداء.
ad

استنفار المختارة
كلّ ذلك لم يكن خافياً على زعيم الغالبية الدرزية في لبنان وليد جنبلاط، سيما أن بعض حسابات الرّجل في مُعارضة نظام الأسد أو الاقتراب منه، كانت تمليها أصلاً «حسابات بني معروف» في سوريا. وهو ما ينطبق على السرعة التي أدار فيها جنبلاط محرّكاته للانطلاق في رحلةٍ إلى قصر الشعب فور تسلّم أحمد الشرع السلطة.

يومها، كانت الانتقادات اللبنانيّة في أوجها، إلا أنّ من يعرف «الهواجس الدرزيّة – الدرزيّة» التي تتحكّم في عقل ساكن المُختارة، يمكنه تلاوة لائحة طويلة من التبريرات. والانتقادات نفسها، على أي حال، تعرّض لها جنبلاط عندما «تخندق» إلى جانب حزب الله في العدوان الإسرائيلي على لبنان بعد عمليّة «طوفان الأقصى».

صحيح أن لـ«التاريخ الجنبلاطي» مقتضياته القوميّة إلى جانب القضيّة الفلسطينية وفي مواجهة الاحتلال، إلا أنّ المحاذير الدّرزية كانت دائماً تُحدّد أولويّات جنبلاط في المعارك أو التحالفات الدّاخلية.

يتذكّر زوّار جنبلاط أن كلامه خلال الحرب الأخيرة على لبنان كان نابعاً من خوفٍ حقيقي، إذ لطالما حذّر في لقاءاته الضيّقة من الخطر الإسرائيلي الذي سينقضّ على حزب الله، وعندما يتخلّص منه سيكون هو التالي.
ad

و«هو»، في قاموس «المختارة»، تعني دروز المنطقة حتماً. حينها، كان جنبلاط يرسم أمام زوّاره خطط الشيخ المتنفّذ بين دروز فلسطين موفق طريف في توسيع نفوذه نحو سوريا، وخطط الإسرائيلي لدغدغة أحلام الدّروز بإعادة قيام «دولة الأقليّات» التي تضمّ دروز سوريا في المرحلة الأولى، ودروز الأردن (الذين يتركّز وجودهم في منطقة الأزرق في الصحراء الشرقية المُحاذية للحدود السوريّة من جهة السويداء وداريا) في المرحلة الثانية، ليأتي الدور في المرحلة اللاحقة على دروز لبنان ومحاولات إلحاقهم بـ«الدّولة الدرزية».

وكان جنبلاط، سمع كلاماً مباشراً حول هذا المشروع، خلال أكثر من اجتماع مع ملك الأردن عبدالله الثاني الذي كان شديد الصراحة في أن مشروع إسرائيل بعد الحرب على لبنان، يستهدف العمل على استمالة الدروز لإقامة «دويلة» تعيد إحياء حلم قديم بدولة تمتد من ساحل الشوف في لبنان مروراً بوادي التيم وصولاً إلى جبل العرب في السويداء. وتلقّى جنبلاط نصائح بالابتعاد عن حزب الله.

مخاوف جنبلاط سُرعان ما تحوّلت إلى حقيقة؛ فهو تلقّف مبكراً السيناريوهات الصهيونيّة التي صارت اليوم حقيقة مع اندلاع المواجهات العسكريّة في مدينة جرمانا الواقعة جنوب دمشق، والتي تجري تحت قيادة مجموعة ترفض الانضواء في «الدولة السوريّة الجديدة».
ad

وهو حال آخرين يعيشون في السويداء ومحيطها. وترافق ذلك مع «تفريخ» أحزاب ومجموعات، كـ«حزب اللواء السوري» و«المجلس العسكري في السويداء»، تتحدّث بلغة فيدراليّة وانفصاليّة وتدعو إلى إدارة ذاتية مُشابهة لإدارة «قسد» في شمال شرق سوريا.

فيما يُشتبه في أن لإسرائيل الدّور الأساسي في إنشاء مثل هذه المجموعات في إطار التشجيع على الانفصال، بالتوازي مع «الكلام الإسرائيلي عن الدّفاع عن دروز سوريا».

ورشة درزيّة
يُدرك جنبلاط أن لبنان هو التالي، وإن كان فريقه لا يلمس أي مؤشرات تقلقه حالياً من الوضع الدّاخلي، إلا أنّه متيقّن أنّ أي قرار بالانفصال الدرزي عن الدولة السورية ستترتب عليه تداعيات خطيرة على سوريا ولبنان والمنطقة. ولذلك، بدأ انطلاقاً من مسؤوليته تجاه الدروز وتاريخية العلاقة مع دروز المنطقة، ورشة حقيقيّة من أجل استنهاض الصوت الدرزي القومي وحمل مشروع القضاء على المشاريع التقسيمية والتدميرية، وهو الذي عايش إغداق الآمال الإسرائيلية على بعض الأحزاب اللبنانيّة بالانفصال قبل أن يُدير الإسرائيلي ظهره لحلفائه، لتكون النتيجة: حروباً أهلية.

اترك تعليق