على مدى التواريخ والأمكنة، تندلع حروبٌ وثوراتٌ واقتتالاتٌ، حيث تُرتَكب إباداتٌ لا يحدّها واقعٌ أو خيال. هذا شيءٌ فظيعٌ ومهولٌ للغاية، لكنّ الأشدّ هولًا وفظاعةً أنْ تضرب “العدالة الكونية” صفحاً عن ذلك كلّه، أو تتغاضى، وتتواطأ، كأنْ لم يكن.
في هذا العالم الخسيس، يعيد “الأخ الأكبر”، ومعه طامسو الوقائع والحقائق ومهندسو الأمر الواقع ورعاة السلام الدنيء والكاذب، احتضان المجرمين والقتلة والجلّادين والوحوش، وتعويمهم، مشرفين على تبييض صفحاتهم وغسل أيديهم، مهيِّئين لهم الظروف، وممهِّدين لهم السبل، ليتسلّموا المهامّ المقبلة التي تدير البلدان والشعوب، وتعلفها كالقطعان، وتُعدّها لمجازر مستقبليّة يقينيّة.
لا تغيب عن ذاكرة العقل، الحرب اللبنانيّة (1975-1989) ومآسيها وفجائعها، ولا قوافل القتل الجحيميّة التي نفّذ جرائمَها وقادها وأشرف عليها، مَن نفّذها وقادها وأشرف عليها، ممّن بُيِّضت سجلّاتهم العدليّة فراح يُكتَب على كلّ واحدٍ منها “لا حكم عليه”، ليتسلّموا أعلى مراكز الدولة والحكم والسلطة والقرار في لبنان منذ 1990 إلى يومنا المشؤوم هذا، وقد تُمَدّد فترات الاستعانة بـ”خدماتهم” هذه إلى غدٍ قد يكون أشدّ شؤمًا ورعبًا قياميًّا.
والآتي قريبٌ جدًّا.
لكأنّ ثمن الحروب الوحيد هو تهيئة المجرمين القتلة الجلّادين الوحوش ليكونوا يدَ الجريمة المقبلة، وتهيئة ورثة القتيل (بلدًا أو شعبًا) ليكونوا ولائم القتل المقبل.
… أمس، في القمّة العربيّة، رأيتُ المجرم يدخل بتاريخ سلالته الهمجيّ، بجأشه الدمويّ، محفوفًا بالمقابر الجماعيّة، بعيون الأطفال المطفأة، بنواح الأمهات الثكلى، بهجرات الفتيات والفتية والأجيال الأشاوس والفجائع المليونيّة، بأنهار الجثث الطافية. رأيتُه بقامته المفترسة، بأنيابه، بسكاكينه، بسواطيره، ببراميله، بنيتراته الأمونيوميّة، بفرق جيشه وميليشياته ودواعشه المدجّجة بشهوات المحق والسحق والجرف والفتن والإبادة، بثيابه الكيميائيّة، بعنف أبهته النكراء، بخساسة فكّيه وأضراسه المهووسة بالنهش، بنجاسة صوته الناعب، بلعنة خطابه الفظّ، بصدره المرصّع بنياشين المجازر، بيديه الناصعتَي الدم، وبسجلّه العدليّ (العربيّ و… الأمميّ) “لا حكم عليه”.
أمّا البلاد، وقاسيون، وبردى، وتلك القرى، وهاتيك الشام، والمدن، والأرياف، والمحافظات، والأطياب، والتوابل، والسهوب، والبراري، والسهول، والبيوت، والبساتين، والنواعير، والنوافير، والأسواق، والفناءات، والمقاهي، والدروب، والساحات، ناهيك بالاقتلاعات، بالضرائح، بالأحلام المهدّمة، بالأغاني المضرّجة، بالمواويل المخضّبة، بمواسم الربيع والثورات المجهضة والمحروقة، بهديل الموسيقى والشعر والفنون والحمام، بهواجس العشق والشغف والتصوّف… فعفا الله عمّا مضى.
هل حقًّا؟ هل حقًّا “عفا الله عمّا مضى”؟
أنظر إلى بلاد الشام، إلى فلسطين، إلى لبنان، إلى بيروت لبنان، إلى بغداد العراق، إلى العراق، إلى دمشق، إلى القاهرة، إلى مصر أمّ الدنيا، إلى السودان، إلى ليبيا، إلى اليمن، إلى المحيط والخليج، فلا أرى سوى عنوان رواية دوستويفسكي، مسفوحًا بـ”الجريمة” لكن بلا “عقاب”.
وها هنا في بيروت لبنان، ها هنا في لبنان كلّه، كلّ شيءٍ هادئٌ ومستتبٌّ على جبهة الجريمة الدستوريّة والقانونيّة والدولتيّة والقيميّة والمعياريّة والحياتيّة والاجتماعيّة والمعيشيّة والوجوديّة في لبنان.
ها هنا المقبرة مكتملةٌ أوصافها. وهي تتّسع. وذات مساءٍ قريب سيطلّ قمر الدم، أو ستطلّ، ذات صباح، شمس الدم (لا فرق)، وتُمهَر صفقةٌ جديدةٌ، فيُعفى عمّا مضى، وينعقد مجلسٌ خسيسٌ للنوّاب، ليُنتخَب رئيسٌ ذمّيٌّ للدولة (قسرًا أو بالرضا) يكون تحت يد السلاح والدويلة، ناكثًا (مسبقًا) قَسَمَه الدستوريّ، وتتألّف حكومةٌ راكعةٌ مهيضة الجناح، وتُوزَّع مناصبُ وحصصٌ، وتُهدَر ودائعُ، ويُعيَّن حاكمٌ، وقائدٌ، وتغتال حرّيّةٌ وأحلام تغييرٍ وثورة، وتُسدَل صفحةُ فسادٍ وإرهابٍ ونهبٍ وقتلٍ وتهريبٍ وتبييضٍ وغسلٍ، لتُفتَح أخرى (بل أخريات)، وهلمَّ لاستئناف لعبة العربدة والعهر والظلاميّات والعبث والدم.
ألا أسمع الكلّ يقول: “عفا الله عمّا مضى”؟
ها هنا لبنان، وعالمه العربيّ، حيث حلم القتل المستتبّ، وحيث الجريمة المتمادية… ولا عقاب.
وإنّي، أنا المواطن العاديّ، إذ أُشهِر رفضي، داعيًا إلى التمرّد الديموقراطيّ النبيل الخلّاق، أسمع الكلّ يقول علنًا جهارًا: اطمئنّوا. اطمئنّوا. لا حكمَ عليه.
رأي حر لا حكمَ عليه (عقل العويط)