ليس جديداً فتح النقاش على عتبة التجديد لقوات الطوارئ العاملة في جنوب لبنان في ما يتعلّق بمحاولة تغيير قواعد الاشتباك وإعطاء صلاحيّات موسّعة لقوات الطوارئ. مجدّداً تحاول الولايات المتحدة الأميركية من خلال فرنسا تعديل قواعد الاشتباك هذه بما يسمح لقوات اليونيفيل أن تدخل القرى من دون وجود قوى من الجيش اللبناني، وهو ما كان موضع رفض من الجانب اللبناني ولو تمّ تمريره في المرّة الأخيرة حين حصل التمديد وأدخل الفرنسيون بعض التعديل على الصلاحيات. ففيما كان اعتماد اللبنانيين في السابق على فيتو صيني وروسي للحؤول دون إحداث أيّ تعديل كانت المفاجأة في أيلول 2022 أنّ هاتين الدولتين حجبتا الفيتو ومرّ التعديل وتسبّب بضجّة في لبنان، لكنّه قُطع وحصل الاصطدام الأوّل بين الأهالي واليونيفيل وسقط قتيل من قوات الطوارئ، وكانت المفاجأة قبل يومين اقرار الاتهامي للحزب بالتسبّب بمقتل جندي إيرلندي من قوّة الأمم المتحدة سقط في كانون الأوّل الماضي جرّاء إطلاق رصاص على سيّارته المدرّعة أثناء مرورها في منطقة العاقبية.
يتواصل الإليزيه بشكل مستمرّ مع الكلّ، والأذن الفرنسية صاحية للتقارير التي يرفعها بعض اللبنانيين بحقّ بعضهم الآخر ويتقاسمها برنار إيمييه وباتريك دوريل
فرنسا تنفّذ الأجندة الأميركيّة
تنفّذ فرنسا في موضوع اليونيفيل بوضوح الأجندة الأميركية من جهة تطويق الحزب، بينما تتبنّى مرشّحه لرئاسة الجمهورية، وهذا يفسّر من وجهة نظر دبلوماسية “التناقض بين فرنسا وأميركا في موضوع الرئاسة والطوارئ. في الرئاسة تملك فرنسا يداً مطلقة وفي موضوع اليونيفيل تلتزم وتنفّذ توجيهات أميركا”.
تتحدّث مصادر دبلوماسية رفيعة عن دور فرنسي محيّر في لبنان، إذ تروّج لمرشّح الحزب الرئاسي وتتبنّاه وتعمل على تسويقه على خطّ لبنان-السعودية، ثمّ تُعدّ في مجلس الأمن قراراً يعزّز صلاحيات اليونيفيل في نطاق عملها على الحدود اللبنانية مع إسرائيل.
تقول المصادر عينها إنّ “الفرنسيين يتعاطون مع لبنان على طرفَي تناقض، ويظهر اختلاف في الرؤية غير واضح على مستوى الملفّ الرئاسي ومقاربتهم لعمل اليونيفيل. إذ كيف لدولة تسعى بكلّ جهدها إلى ضمان أمن إسرائيل على الحدود مع لبنان وتقويض سلطة الحزب أن تعمل لأجل مرشّحه وتسوِّقه لدى دول القرار؟”.
وفي معلومات “أساس” أنّ الخارجية اللبنانية تلقّت تقريراً ينبّه إلى وجود توجُّه ترعاه فرنسا وتسعى إلى تحقيقه هدفه توسيع صلاحيّات قوات حفظ السلام الموجودة في الجنوب على الحدود مع فلسطين المحتلّة على عتبة التصويت على قرار التمديد لعمل هذه القوّات سنة إضافية أواخر شهر آب المقبل.
في الملفّ الرئاسيّ
رئاسياً ومنذ البداية أسدت فرنسا النصيحة للأطراف المسيحية بالاتّفاق مع الشيعة وفتح حوار مع حزب الله في الشأن الرئاسي. وحسب المعلومات كان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون قد أرسل رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي إلى وليّ العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان ساعياً إلى رفع الفيتو السنّيّ عن فرنجية. وبسبب تأييدها لخيار الثنائي واجهت فرنسا امتعاضاً مسيحياً عبّر عنه البطريرك الراعي خلال زيارته الأخيرة لفرنسا حيث عمل على تعديل الموقف الفرنسي. وإزاء هذا التطوّر ربّ قائل إنّ فرنسا خرجت من المعادلة اللبنانية رئاسياً. كانت لها مبادرة كاملة متكاملة وتفاهم على سمير عساف لحاكمية المركزي، ونواف سلام لرئاسة الحكومة. يبحث الفرنسي عن دور، وهدفه حفظ وجوده في الشرق من خلال لبنان وأن يبقى على تفاهم مع الحزب، وما يهمّ فرنسا انتظام عمل المؤسّسات التي لا تلتئم إلا في حال انتخاب رئيس للجمهورية، وهو ما يهدّد استمرار مصالحها في لبنان.
إذا كان حزب بعث رسالة بالدم على إثر حادثة العاقبية ليعبّر عن رفضه تعديل قواعد الاشتباك، فإنّ هذا لا يعني أنّه توجد إشكالية مع فرنسا أو لا يمكن التفاهم معها في السياسة الداخلية
يتواصل الإليزيه بشكل مستمرّ مع الكلّ، والأذن الفرنسية صاحية للتقارير التي يرفعها بعض اللبنانيين بحقّ بعضهم الآخر ويتقاسمها برنار إيمييه وباتريك دوريل.
في التقويم المسيحي فقدت فرنسا دور الأمّ الحنون وصارت دولةً تبحث عن مصالحها التجارية وتقدِّمها على أيّ اعتبارات أخرى. في معرض هجومه على رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي يعتبر رئيس الحزب التقدّمي الاشتراكي وليد جنبلاط أنّ الأخير يطوّع الدولة في خدمة مصالحه وبغرض حمايتها. ويتقاطع هذا الموقف مع معطى أبرزته مصادر سياسية على صلة يقول إنّ الفرنسيين لن يمانعوا استمرار ميقاتي برئاسة الحكومة لأنّه يسهّل لهم مصالحهم من المرفأ إلى التنقيب عن الغاز، إضافة إلى تقاطعهما على دعم ترشيح فرنجيّة.
يجتمع فريق السفارة الفرنسية في لبنان مع مسؤولين في الحزب بمعدّل مرّتين أسبوعياً ويعقدون صفقات تجارية مهمّة مع لبنان، عرّاب بعضها ممثّل الحزب في الحكومة وزير الأشغال علي حميّة، وعندما يحين موعد التمديد لمهامّ اليونيفيل في لبنان تباشر فرنسا البحث عن سبيل لاستصدار قرار أمميّ يقيّد الحزب على الحدود.
تقول مصادر دبلوماسية إنّ فرنسا تفعل الشيء ونقيضه. وحسب التقرير الوارد إلى الخارجية فهي تطالب برفع كلّ ما هو موجود على الحدود ومن شأنه أن يعيق حركة إسرائيل ويحدّ من إمكانية كشفها كلّ التحرّكات التي تحصل على الجانب اللبناني من الحدود، فتطالب بإزالة الأشجار والكونتينرات الموزّعة على عدّة نقاط حدودية من جهة لبنان وفوق التلّة المطلّة على الجانب الفلسطيني، فيما يُسمح للإسرائيلي ببناء جدار فاصل بين البلدين.
ليس مفهوماً كيف لدولة أن تسعى إلى محاصرة حزب ثمّ تسانده في انتخاب مرشّحه الرئاسي، فهل هو التناقض بعينه؟
تقول مصادر سياسية رفيعة إنّه ليس تناقضاً، فالمسألة الأمنيّة تختلف عن الشأن السياسي، وحسابات التجديد لليونيفيل متّصلة بالموضوع الأمنيّ والتزامات فرنسا بحلف شمال الأطلسي.
إذا كان حزب بعث رسالة بالدم على إثر حادثة العاقبية ليعبّر عن رفضه تعديل قواعد الاشتباك، فإنّ هذا لا يعني أنّه توجد إشكالية مع فرنسا أو لا يمكن التفاهم معها في السياسة الداخلية. يثبت ذلك أنّ حسابات الدول تختلف من ملفّ إلى آخر. ففي الجنوب تتقدّم حسابات إسرائيل والتزامات الأمم المتحدة ولا يمكن لفرنسا أن تخرج من المعادلة، فيما يمكن لباريس في المقابل أن تنسّق مع حزب الله في الشأن الرئاسي.