التطورات المتسارعة على الخط الرئاسي مع اتفاق الكتل المسيحية وبعض المستقلين على ترشيح جهاد أزعور، لا تفضي إلى حسم هذا الملف في وقت قريب كما أشارت “النهار”. لا بل أن البلاد قد تدخل في مرحلة جديدة ممتدة من الفراغ، في ظل الانقسام العمودي وافتراق القوى السياسية والطائفية وعجزها عن التفاهم على مرشح تسوية. فإحداث خرق حاسم في الاستعصاء الداخلي لإنهاء الشغور أمامه الكثير من العقبات، باعتبار أن انتخاب الرئيس يحتاج إلى التوافق على مشروع تسوية متكاملة للمرحلة المقبلة وكيفية إدارة البلاد لانتشال لبنان من مستنقع الانهيار الذي يغرق به منذ سنوات.
اعلان ترشيح أزعور رسمياً، لا يعني أن الطريق باتت مفتوحة لانجازالاستحقاق، فالامور أكثر تعقيداً من عقد جلسة تشريعية مرهونة بالدعوة إليها من رئيس مجلس النواب نبيه بري المتشبث باسم سليمان فرنجية مع “حزب الله” مرشحاً للممانعة. فإذا لم تكن الحسابات مواتية لإيصال هذا الأخير إلى الموقع الأول، فلا جلسة انتخابية، وإذا عقدت بفعل الضغوط الدولية، فإن تعطيل النصاب سيكون عنوانها إذا تبين أن حظوظ أزعور مرتفعة بالتصويت. يظهر هذا الامر من خلال المواقف التصعيدية لـ”الثنائي الشيعي” ووصول الأمر إلى حد القطيعة مع الاطراف الاخرى، واطلاق الاتهامات، وهو ما عبر عنه رئيس المجلس التنفيذي في “حزب الله”، هاشم صفي الدين، السبت، بإشارته إلى حصول تدخل أميركي في الأيام الأخيرة بهدف العرقلة، قائلاً “إنه إذا كان المقصود من هذا التدخل هو التحدي، فالأميركيون يعلمون أنّ فيه مزيدًا من العرقلة، سواء في انتخاب رئيس الجمهورية أو في إدارة أيّ أمر سياسي في المستقبل”.
بدأ الملف الرئاسي يأخذ البلاد إلى مزيد من الانقسام بطابع طائفي خطير، في وقت لا يبدو فيه أن هناك ضغطاً خارجياً أو بحثاً جدياً في تسويات للأزمة لوقف هذا الانحدار وتداعياته، ذلك أن الاصطفافات لا تزال “تكربج” اي تفاهم، في غياب الرافعة الخارجية. لكن أحد الاسباب الرئيسية التي تقف في وجه التسوية الرئاسية، في ظل الانقسام الراهن، هو تشبث “الثنائي الشيعي” خصوصاً “حزب الله” بفرنجية، فيما دعوته إلى الحوار تدور حول اسمه. ويتبين وفق الأجواء انه قد يصعد نحو تعطيل مفتوح يؤبد الفراغ إلى حين توفر ظروف داخلية لانتخاب مرشحه، وهو يستند إلى ما يعتبره عناصر قوة داخلية وإقليمية تسمح له بإيصال فرنجية إلى الرئاسة ولو بعد حين. لكن عناصر القوة لدى الحزب معروفة بفائض قوته العسكرية وقدرته على التحكم بالقرار وتماسك كتلته الطائفية في الهيمنة على البلاد والتغطية الإيرانية له، ولذلك لا يزال يراهن على تغييرات تصب في مصلحته.
نقطة ثانية يستند إليها الحزب، وهي رهانه على عدم قدرة المعارضة مع التيار الوطني الحر على تأمين الأصوات الكافية لمرشحهما في مجلس النواب، وهو مقتنع أن عدداً من النواب المسيحيين لن يصوتوا لأزعور. أما النقطة الأهم، فهي متعلقة بالبطريرك الماروني بشارة الراعي، فبالنسبة إلى الحزب ليس من مصلحة الراعي أن يتحول طرفاً في تأييد مرشح ضد آخر، فإذا تبنى خيار أزعور يكون قد اختار المواجهة مع الحزب. ولذا كان واضحاً ان اعلان ترشيح أزعور لم يتم من بكركي. الامر الآخر المهم للحزب هو أن البطريرك لم ينتزع موقفاً فرنسياً مؤيداً لمرشح المعارضة، لذا لا يزال الحزب يراهن على “المقايضة” الفرنسية بإيصال مرشحه وأن يكون رئيس الحكومة حليفاً للطرف الآخر، وانطلاقاً من أن ملف لبنان لا بد من أن يعاد إدراجه على خط التقارب السعودي- الإيراني. وأي خيار آخر سيؤدي إلى تصعيد مفتوح وزيادة منسوب التوترات، من دون أن تتكرربالضرورة تجربة 7 ايار 2008 حين نزل الحزب بقوته العسكرية إلى بيروت، وأدى ذلك الى تسوية الدوحة. ويبدو أن توتر الحزب الاخير ناتج عن أن حساباته لم تكن كلها مطابقة للواقع، فبينما كان يراهن على عدم تمكن الأطراف المسيحية من الاتفاق على مرشح، إلا أنه تفاجأ بالامر، وهذا أحد الأسباب الرئيسية لتصعيده.
في حال العجز عن انتخاب الرئيس وسط الانقسامات الراهنة، سنكون أمام مرحلة من الاكثر خطورة في تاريخ البلاد، إذ لن يستطيع اي طرف في الداخل احداث خرق في جدار الأزمة، في انتظار مبادرة خارجية تحسم الامور، ولذا سيسعى الجميع إلى خوض معركة تعديل الموازين وتحسين الاوراق في أي مفاوضات مقبلة. وللدلالة على العجز الداخلي عن الاتفاق وصولاً إلى التسوية هو تراجع الاهتمام العربي والدولي بلبنان مع تجميد حراك باريس الخماسي، وذلك على رغم التلويح بالعقوبات على المعرقلين.
يتبين من الخلافات المستجدة وتغير التحالفات مع حسم التيار الوطني الحر ترشيح أزعور، واشتداد الصراع بين كتلتين طائفيتين أي “الثنائي الشيعي” والأطراف المسيحية، أن الداخل عاجز عن حسم الملف الرئاسي، فما لم تكن هناك ضمانات إقليمية ودولية لن يكون في إمكان اللبنانيين في وضعهم الحالي الاتفاق على برنامج انقاذي. ويظهر ذلك في طريقة النظر الى الانتخابات الرئاسية وتعاطي الاطراف معها، إذ أن كل جهة لديها حسابات مختلفة، فـ”حزب الله” يريد إيصال مرشحه والحفاظ على مكاسبه التي حققها خلال السنوات الماضية ولا يتنازل عنها، فيما القوى المعارضة الاخرى رشحت أزعور ومن ضمن ما تسعى إليه إسقاط فرنجية أولاً.
سيناريوات الاستحقاق أصبحت واضحة وتبدأ باستمرار التعطيل وعدم عقد جلسة حتى مع تبني المعارضة لجهاد أزعور، إلا في حال تأكد “الثنائي الشيعي” من تراجع حظوظ مرشحها، وهذا يعني أن الجلسة قد تعقد في حال تبين أن سليمان فرنجية سيفوز بأكثرية الأصوات. وإذا عقدت جلسة انتخابية بفعل الضغوط ستواجه بتعطيل النصاب أيضاً، إذا تبين أن المعارضة تمكنت من حشد اصوات كافية من المكونات الأخرى الطائفية لانتخاب مرشحها. ووفق معلومات متقاطعة أن الحزب سيمارس أقصى الضغوط لمنع حصول مرشح المعارضة على الأكثرية.
كل السيناريوات المطروحة في الاستحقاق الرئاسي، سيكون لها انعكاسات خطيرة على البلاد، سياسياً وطائفياً. انتخاب فرنجية يعني أن طرفاً طائفياً انتصر على فريق مسيحي كبير تعرض للهزيمة، وهو ما سيعرض البلد لعقوبات، باعتبار أن المنتصر سيكون “حزب الله”. كل ذلك مرهون بالحراك الخارجي وتوفير مظلة عربية وإقليمية للاستحقاق، بصرف النظر عن تبني مرشح من هذا الطرف أو ذاك.