لا تنحصر اهتمامات حزب الله بالمعركة الرئاسية فقط، على الرغم من أنه يوليها اهتماماً استراتيجياً، يتصل بالمعايير التي وضعها الحزب سابقاً حول عدم انتخاب أي رئيس “يطعن ظهر المقاومة”. ولكن في موازاة هذه المعركة، وترشيح قوى المعارضة لجهاد أزعور في مواجهة سليمان فرنجية، والذي أربك الحزب نسبياً، أو غيّر من قراءاته واستنتاجاته للوقائع، لا سيما أنه كان ينتظر مواقف خارجية واضحة، تصب في صالح فرنجية، وتتحقق توقعاته ورؤيته في أن المسار الإقليمي ينسحب لصالحه في لبنان.. يبدي الحزب اهتماماً بملفات أخرى تبدو داهمة بالنسبة إليه. ومثل هذه الاهتمامات ذات بعد حدودي له مدى استراتيجي، لطالما ركّز عليه الحزب، كنقطة قوة خارجية تمكنه من أن يستفيد منها داخلياً.
صاحب القدرة
في موازاة الاهتمام بالمعركة الرئاسية، والتي ستطول حسب وجهة نظر الحزب نظراً للانقسام العمودي القائم.. يبرز اهتمامان آخران. الأول، هو تطورات الوضع السوري، ولا سيما على الحدود اللبنانية السورية وما تشهده من حملات أمنية من قبل الجيش السوري للسيطرة عليها. فيما الثاني يرتبط بالتطورات الحدودية الجنوبية. ولا يمكن فصل هذه الاهتمامات الحدودية عن التطورات السياسية الداخلية، لأنهما وفق نظرة حزب الله الاستراتيجية يرتبطان ببعضهما البعض ويتكاملان، لأن قوته تستمد من الداخل إلى الخارج أو بالعكس أيضاً.
طوال السنوات الماضية تدرّج حزب الله في تكريس قوته الأمنية والعسكرية حدودياً، سواءً جنوباً أم شرقاً. كما تدرّج في تكريس قوته السياسية من خلال فرض وقائع لا تسمح بانتخاب رئيس للجمهورية أو تشكيل حكومة من دون موافقته. وبالتالي، كرّس نفسه صاحب القدرة على صناعة العهود والرؤساء، ورئاسة المجلس النيابي ضمناً.
صنع حزب الله هذه المعادلات داخلياً. وهو يريد لها أن تستهدف الخارج، ليقول إنه الأقوى والأقدر، وأي اتفاقات أو مفاوضات لا بد أن تتم معه. في المقابل، انقسم الخارج إلى قسمين، الأول يرفض التسليم بهذه الوقائع واستمر بسياسة الضغوط والمجابهة، فيما الثاني -كما هو الحال بالنسبة إلى الفرنسيين- ارتكس إلى التعامل مع الوقائع الجديدة والاتفاق مع القوي. والانقسام بين الموقفين الخارجيين يظهران في الكثير من الاستحقاقات، أبرزها مثلاً الانقسام الأميركي الفرنسي حول التجديد لقوات اليونيفيل في الجنوب. إذ كانت أميركا تريد تقليص العديد ووقف المهام والتوقف عن التمويل، فيما فرنسا بقيت مصرة على الاستمرار. ثاني الانقسامات تجلّت في المعركة الرئاسية من خلال تطابق فرنسي مع الحزب، في مقابل تلاق أميركي سعودي قطري.
المعركة الرئاسية
لطالما مورست ضغوط خارجية سعياً لتغيير موازين القوى السياسية، بشكل يقول لحزب الله إنه لا يمكنه أن يكون المقرر في كل الاستحقاقات اللبنانية. وهذا مسار فُتح منذ سنوات، وتعزز أكثر بعد 17 تشرين، وصولاً إلى الانتخابات النيابية الأخيرة، التي خسر فيها الحزب الأكثرية. وحالياً، حطّ القطار في المعركة الرئاسية التي يراد فيها القول للحزب إنه لا يمكنه أن يفرض رئيساً للجمهورية على كل اللبنانيين، والمسيحيين خصوصاً. والأهم أن هذه التطورات تأتي على وقع تحولات إقليمية عنوانها الاتفاق السعودي الإيراني، والتقارب السعودي السوري، واللذان من شأنهما أن ينعكسا تفاهمات على الساحة اللبنانية، لكنها تفاهمات لا تزال متأخرة بالنظر إلى الوقائع. فيما ثمة انتظار أو رهانات على أن يدرج الملف اللبناني وتحديداً رئاسة الجمهورية على طاولة البحث بين الإيرانيين والسعوديين للوصول إلى تفاهم.
نحو الحدود..
في موازاة مواكبة الاستحقاق والتركيز عليه، لا يمكن إغفال تركيز الحزب على الحدود الجنوبية والحدود الشرقية. فإلى جانب تكريس الحزب لقوته سابقاً في تحديد الرؤساء ورسم ملامح العهود، تمكن بفعل الوقائع أن يفرض قوته الميدانية في سوريا، من خلال تمدده بالأراضي السورية المتاخمة للحدود اللبنانية. هذا، إلى جانب الواقع الذي كرسه في الجنوب عبر معادلات الردع أو موازين القوى وقواعد الإشتباك، والذي جعله مفاوضاً رئيساً في ملف ترسيم الحدود، حتى وصل الأمر بالأميركيين للقول إنهم قد نسجوا الاتفاق مع الحزب.
حالياً، يتزامن فتح هذه الملفات الثلاثة مع بعضها البعض. فملف الحدود اللبنانية السورية مفتوح على أكثر من نافذة، لناحية الوجود الأمني والعسكري، في ظل التقارب الخليجي السوري، والذي يهدف إلى سيطرة سوريا على حدودها مع لبنان وضبطها، بالإضافة إلى البحث عن سبل لإعادة اللاجئين إلى هناك. وبالتالي، يركز الحزب بشكل أساسي على نفوذه وواقعه في تلك المنطقة، والتي قد يجري فيها إعادة تموضع، بموجب الإتفاق مع النظام السوري. وهذا ما تكرس في التنسيق الأمني بعد حادثة اختطاف المواطن السعودي.
الجبهة الجنوبية
أما في الجنوب، فيسعى حزب الله إلى تكريس وقائع جديدة. وذلك بهدف الردّ على كل الانتقادات التي تطاوله في ملف ترسيم الحدود، والقول إن هذا الترسيم قد أدى إلى تمديد الهدنة وإنهاء مقومات الصراع أو القتال، مع الارتكاز إلى معادلة ضبط قواعد الاشتباك. من بين هذه الوقائع كانت المناورة العسكرية الضخمة التي قام بها الحزب، للتأكيد على أنه ما زال موجوداً بقوته العسكرية وجاهز لكل الاحتمالات. كما أنه يترقب تداعيات القرار الظني الصادر عن القاضي فادي صوان، بقضية مقتل الجندي الإيرلندي، وما يمكن أن ينجم عنها. فيما الأهم هو الخطوات المقبلة التي سيقوم بها حزب الله للتأكيد بأن اتفاق ترسيم الحدود لا يعني التهدئة مع اسرائيل. وهذا ما يظهر من خلال بعض التحركات أو المؤشرات البسيطة، والمفترض أن تتعاظم في المرحلة المقبلة، وإن كانت في سياقين مدني وإعلامي فقط.
ففي الأيام الماضية، عمل حزب الله على نصب خيمة على الحدود مع الأراضي المحتلة، وتحديداً في خراج منطقة شبعا. كان لاختيار المنطقة رمزية تتعلق بواقعها، وثانياً للإشارة إلى أن الحزب لم يتخل عنها. نصبُ الخيمة استدعى استنفاراً إسرائيلياً، فاستكمل الحزب خطواته بنصب خيمة أخرى، ما استدعى تجاوزاً اسرائيلياً مؤلفاً من 20 عنصراً للخط الأزرق في محاولة لتطويق تلك الخيمة ليل الإثنين الثلاثاء.
يأتي ذلك في ظل معلومات تشير إلى أن الحزب أبقى على استنفاره في الجنوب بعد المناورة العسكرية التي أجراها، وعمد إلى تعزيز فرق الإعلام الحربي هناك، حيث تفيد بعض المعلومات بأن تحركات مدنية مقبلة ستحصل في تلك المنطقة، عبر تنظيم تظاهرات مدنية، هدفها نزع الشريط الشائك وتجاوزه، تحت عنوان “سنعبر”، في إشارة من الحزب إلى عدم التخلي عن مبدأ التحرير. ولكن الأهم هو نتيجة مثل هذه التحركات، والتي غالباً ما يكون لها انعكاس داخلي أو يراد لها أن تفرض وقائع سياسية جديدة.