يعيش لبنان واقعين متناقضين؛ إذ ينجلي الهدوء النقدي بشكل مستغرب لجهة الهبوط التدريجي والبطيء لسعر صرف الدولار مقابل الليرة اللبنانية في الأسواق النقدية، في مقابل التطورات السياسية التي تتسم بالضبابية، وتحتدم على أكثر من صعيد، بدءاً من تعثر انتخاب رئيس للجمهورية، ما يجعل توحيد سعر الصرف متعذراً في ظل الخلافات السياسية.
ومع أن استعادة «الاستقرار» النقدي تبدو هدفاً بعيد المنال في ظل تواصل الأزمات الداخلية، تقول مصادر مالية ومصرفية معنية، إن الفصل بين ضبط الفوضى النقدية ومساعي الحلول السياسية التي تتسم بالغموض، «يحظى بتغطية كافية من قبل مراكز القرار في السلطتين التشريعية والتنفيذية، وعبر الدعم الضمني للتدخل الأخير للبنك المركزي» لجهة عرض بيع الدولار النقدي المفتوح لصالح الأفراد والشركات عبر منصة «صيرفة» بشكل مستمر، للشهر الثالث على التوالي (بدءاً من 21 مارس (شباط) الماضي).
ولم تتأثر تلبية طلبات شراء الدولار عبر منصة المصرف المركزي (صيرفة) بارتفاع متوسطات التداولات على المنصة إلى نحو 150 مليون دولار يومياً، ما يرجّح متانة قرار «الاستمرار» بالتدخل من قبل المركزي، وذلك بمنأى عن التأثيرات الجانبية، سواء منها الآنية ذات الصلة بالملفات القضائية الداخلية والأوروبية التي تطول الحاكم رياض سلامة، أو الآجلة نسبياً المرتبطة بانتهاء الولاية القانونية الخامسة لسلامة بنهاية الشهر المقبل.
وتسهم تلك المؤشرات في ترسيخ دور المنصة كسوق رئيسية للمبادلات النقدية، ويؤكد مسؤول مصرفي كبير تواصلت معه «الشرق الأوسط» أن المنصة ستواصل العمل بآلياتها بُعَيد انتقال موقع الحاكم وصلاحياته إلى نائبه الأول وسيم منصوري، عملاً بنص المادة 25 من قانون النقد والتسليف. وتتطلع السلطات النقدية للاستفادة من هذا الواقع، عبر «إمكانية استثمار مزاياها في بلورة سياسة نقدية جديدة تبدأ بتوحيد تشكيلة أسعار الصرف ومعالجة ما أفرزته من تشوهات عميقة ومؤذية لاستهداف الإنقاذ والتعافي في العهد الجديد». سيطرة الدولار
ومع سيطرة التعامل بالدولار على العمليات التجارية وأسواق الاستهلاك، والاستمرار بصرف رواتب القطاع العام بالدولار على منصة «صيرفة»، يرتقب أيضاً أن ينكفئ تلقائياً الطلب على الدولار النقدي المعروض من البنك المركزي، بسبب انعدام الجدوى الربحية كون الفارق عن السوق الموازية لا يتخطى الـ5%، حيث يتم عرض الدولار النقدي حاليا بسعر 86.3 ألف ليرة، فيما يبلغ السعر في التداولات الحرة بين 93 و 93.5 ألف ليرة.
ويمثل الفارق الشاسع بنسبة تقارب 6.3 ضعف، بين سعر الصرف الرسمي البالغ 15 ألف ليرة للدولار الواحد، والسعر المتداول في الأسواق الموازية النقدية والاستهلاكية (نحو 93 ألف ليرة)، العقدة الأكثر استعصاءً التي تواجه مركز القرار النقدي في المرحلة المقبلة، لا سيما لجهة ما تفرزه من معطيات محاسبية خاطئة في اعتماد السعر غير الواقعي ضمن أبواب الموجودات والمطلوبات في الموازنة العامة وميزانيات القطاع المالي (بنك مركزي، جهاز مصرفي ومؤسسات مالية)، فضلاً عن الإجحاف الكبير بحق أصحاب الحسابات بالدولار لدى البنوك، الذين يجري فرض السعر على سحوباتهم الشهرية المتاحة، وتحميلهم اقتطاع نحو 84 في المائة من أصل المبلغ.
* معطيات مالية إيجابية
يتعزز ذلك في معطيات إيجابية، حيث سجل صافي الموجودات الخارجيّة لدى القطاع المالي اللبناني ارتفاعاً بحوالي 1237 مليون دولار خلال الأشهر الأربعة الأولى من العام الحالي، مقارنة بانخفاض بلغ نحو 1702 مليون دولار في المدة نفسها من العام الماضي، ما يعكس تحسناً لافتاً في أداء ميزان المدفوعات، لا سيما أنه ينتج عن زيادة مهمة في صافي الموجودات الخارجيّة لدى المصارف والمؤسَّسات الماليّة تتعدى الملياري دولار، تكفلت بتحقيق الفائض وتغطية انخفاض صافي الموجودات الخارجيّة لدى البنك المركزي بقيمة 783.6 مليون دولار.
ويتوقع المسؤول المصرفي تسجيل زيادات محسوسة هذا العام في حجم تحويلات اللبنانيين العاملين في الخارج والمغتربين، بما يتعدى 7.3 مليار دولار عبر الجهاز المصرفي وشركات تحويل الأموال وحمل الأموال النقدية مع الوافدين إلى البلد. وهو ما سيسهم مع الموارد الإضافية في تحسين الفوائض وتغطية عجز الميزان التجاري، والمتأثر حكماً بتراجع حجم المستوردات جراء ارتفاع سعر الدولار الجمركي، وبعدما تخطت مستوى 19 مليار دولار في العام الماضي، بهدف الاستفادة من التسعيرة المنخفضة سابقاً.